
عبدالرحمن شلقم
رحل الفريق أحمد قايد صالح رئيس الأركان و نائب وزير الدفاع الجزائري يوم  الاثنين الثالث و العشرين من هذا الشهر ، و نقل إلى مثواه الأخير في جنازة  دولة وسط حشد شعبي هائل غير مسبوق في الجزائر يوم الأربعاء . الارتفاع إلى  سدة الحكم في الجزائر و مغادرتها له طقوس شكسبيرية كتبها التاريخ بحروفه  التي لا يغيب عنها لون الأسرار و المأساة . كل من ارتفع دخل إلى حلقات كواليس  ماكبث و الملك لير دون أن نعرف أسماء الساحرات و البنات ، و إن طفت على سطح  الإعلام و التقارير الخاصة بعض التسريبات من ثقوب الزمن . الفريق الراحل  أحمد قايد صالح كتب فوق صفحات مسيرة الجزائر أكثر مما كُتب عنه ، و إن لم يغب  منذ بداية الصفحات الأولى . التحق بجيش التحرير الذي جاهد ضد الاستعمار  الفرنسي و هو في سن السابعة عشرة من عمره ، و بقي في صفوف الجيش الذي حمل اسم  الجيش الوطني بعد الاستقلال . كان عسكرياً بامتياز ، لكن المسافة بين السياسة  و الجيش في الجزائر مثلما هي بين الشهيق و الزفير . لقد سبقه كثيرون في  الانضمام إلى جيش التحرير بحكم السن ، لكنه فرض اسمه مبكراً في الصفوف  القيادية الأولى . في مؤتمر طرابلس الذي عقد في أواخر سنة 1959 و أوائل 1960  و حضره القادة العسكريون و السياسيون للثورة الجزائرية و قام بهيكلة جيش  التحرير و تسمية قادته و تحديد مهامه ، كان اسم الجندي الشاب أحمد قايد صالح  حاضراً في توزيع المهام القتالية . كانت الثورة الجزائرية في أوجها ،  و خاصة في الحدود الغربية مع المغرب و الشرقية مع تونس ، و الإمدادات بالأسلحة  تتدفق من مصر و ليبيا ، و تحول الثوار إلى جيش منظم يخوض معركة شاملة عنيفة  في كل أرجاء البلاد . بدأت مسيرة المفاوضات السياسية بين فرنسا بقيادة  الجنرال ديغول و الحكومة المؤقتة الجزائرية . لم يتوقف السلاح رغم مسيرة  الحوار بين الطرفين ، لكن الخلاف بدأ يلوح في صفوف الثوار عندما أعلن  الجنرال ديغول عن سلام الشجعان بين الثوار و المستعمر ، فكلما اقتربت علامات  الاستقلال بدأت طموحات السلطة تطل برأسها ، و ذلك ما حدث ، فقد أصر جيش الغرب  الذي يقوده العقيد هواري بومدين و كان اسمه الحقيقي محمد بوخروبة على أحقيته  في تولي الحكم و زحف على العاصمة و فرض أحمد بن بلة رئيساً للبلاد . بعد 3  سنوات قام العقيد الذي أوصله إلى الحكم بوضعه في زنزانة مدة 15 سنة , ليتربع  على سدة الحكم من 1965 إلى 1979 . في كل تلك السنوات ظل الضابط أحمد قايد  صالح قريباً من هواري بومدين و ترفع في الرتب و تنقل بين المناطق العسكرية  و الأسلحة المختلفة و تلقى دورات في الداخل و في الاتحاد السوفياتي . شارك في  الحروب العربية ضد إسرائيل ، و بعد رحيل هواري بومدين اجتمع القادة العسكريون  و اختاروا العقيد الشاذلي بن جديد خلفاً له بحكم سنه و رتبته ، و على أثر  إلغاء الانتخابات النيابية سنة 1992 اندلعت في البلاد شرارة العشرية  الدموية السوداء ، و خاض الضابط أحمد قايد صالح معاركها ضمن القوات البرية .  في كل ذلك الخضم كان عسكرياً منضبطاً و مقاتلاً ، لكنه ظل المراقب للمشهد  السياسي المتداخل مع العسكري . تداول على كرسي الرئاسة في البلاد ثلة من  العسكريين و قلة من المدنيين ، لكن الرجل وجد نفسه في وسط معمل القرار مع  بداية عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة . الضباط الكبار المتحدرون من منظومة  الجيش الفرنسي إبَّان الاستعمار كانت لهم الهيمنة على مفاصل الجيش و بالتالي  القرار السياسي ، و فشلت كل المحاولات التي هدفت إلى إقصائهم ، و كان المجاهد  أحمد قايد صالح يستهدفهم مثلما يستهدفونه . السياسي و المجاهد المحنك  بوتفليقة خطط للتخلص من ضباط فرنسا ، و عندما جاءه الجنرال محمد العماري  مقترحاً عليه إعفاء قايد صالح رفض ذلك ، و أبلغ صالح باقتراح العماري و شكل  معه عصبة من كبار الضباط لإخراج المجموعة الفرنسية ، و هكذا صار الرجل في  غرفة العمليات العسكرية و السياسية أيضاً ، و الحليف الأقرب للرئيس بوتفليقة  الذي أراد أن يجمع كل السلطات في يده وحده و أن يجعل المؤسسة العسكرية  بالكامل تحت قيادته . عين بوتفليقة قايد صالح رئيساً للأركان بعد أن كان  قائداً للقوات البرية ، و بعد ذلك أراد أن يدخله في الدائرة السياسية ، فعينه  نائباً لوزير الدفاع حيث يحتفظ الرئيس بمنصب الوزير . استخدم بوتفليقة دهاءه  السياسي ليزيح قادة الجيش من حلقة القرار السياسي و كان عضده أحد رجالات  الجيش ذاته . كان قرار بوتفليقة بتعديل الدستور و التمديد لنفسه بداية معركة  صامتة بين أطراف كثيرة ، بدأت تبرز سنة 2014 عندما مرض الرئيس و أصبح أخوه  الأصغر سعيد يقود الدولة مع مجموعة من ضباط الجيش و الأمن و رجال الأعمال .  ارتفعت رائحة الفساد و امتدت إلى حدود الجيش ، عندئذ تحرك قايد صالح  لمحاربته ، و أطلق عليه مؤيدوه «المنجل» الذي يقطع رأس الفساد في الجيش .  عندما أعلن الرئيس بوتفليقة قراره الدخول في عهدة خامسة تحرك الشارع  الجزائري في مظاهرات غير مسبوقة ترفض التجديد له ، و اجتمع كبار ضباط الجيش  و الأمن و رجال أعمال بحضور شقيق الرئيس و قرروا مواجهة المتظاهرين بالسلاح ،  و عندما عارضهم قايد أحمد قرروا إزاحته ، كانت تلك نقطة الانعطاف بالنسبة له ،  فقرر مواجهتهم بتفعيل المادة 102 من الدستور التي تحدد المسار عند شغور  منصب رئيس الجمهورية بسبب عجزه . بدأ باعتقال من سماهم عصابة الفساد  استجابة لطلبات الشارع المتظاهر ، و حرك مسيرة الانتخابات . في 12 ديسمبر  (كانون الأول) جرت الانتخابات التي حملت عبد المجيد تبون إلى سدة الرئاسة ،  و هو رجل ذو خبرة إدارية و مالية ، تولى عدة حقائب وزارية و ولايات و رئاسة  الوزراء لمدة شهرين و نصف شهر ، حيث أُبعد بإرادة العصابة كما يقول . تبون  قدم في حملته الانتخابية 50 نقطة أبرزها محاربة الفساد مدعوماً بالرجل  الذي كان حليفه الأول الفريق قايد صالح . اليوم بعد رحيل الرجل القوي ، ما هو  المنتظر في الجزائر ؟ لقد رحل صانع التغيير بعد أيام قليلة من تنصيب الرئيس  الجديد و جرى تعيين اللواء سعيد شنقريحة رئيساً مؤقتاً للأركان و هو قائد  القوات البرية . هل سيكون رحيل قايد صالح فرصة للرئيس الجديد للتفرد بالقرار  دون أي دور للجيش ، أم سيكون رحيله خبطة ضعف تحد من قدرته على السيطرة على  مفاصل الدولة ، خاصة أن الشارع لا يزال يهتف برحيل الجميع ؟ أم إيجاد خيط  تواصل مع الشارع بالإفراج عن المعتقلين ، خاصة الأخضر بورقعة الشيخ الكبير  أحد رموز الجهاد الوطني ، و استيعاب عدد من قيادات الحراك في الوزارة  القادمة ، و ملاحقة رموز الفساد قضائياً . تبقي مسألة تعديل الدستور و إجراء  انتخابات برلمانية مبكرة تثير أسئلة و تساؤلات . تحويل نظام الحكم من رئاسي  إلى مختلط قد يكون فيه شيء من الرغبوية ، التجارب البرلمانية في منطقتنا  تحتاج إلى تقييم موضوعي . في كل الأحوال سيبقى الراحل الفريق أحمد قايد صالح  الذي دفن في مقبرة العالية بمربع الشهداء إلى جنب الرئيسين السابقين بن  بلة و بومدين و رموز الجهاد الجزائري ، اسماً لا يخفت ضوؤه في الذاكرة  و التاريخ الجزائري . فقد كانت بدايته و نهايته فيهما كثير من سر الجزائر  و عظمتها و تراجيديتها .