
خالد الدخيل
أعود إلى موضوع تناولته هنا قبل أسبوعين (17 آب (أغسطس) 2014). ما كتبته  آنذاك كان عن حديث الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى علماء الدين و عتبه على  صمتهم و ما ران عليهم من كسل كما قال أمام هجمة إرهاب يأخذ من الدين  لباساً له . لعله من الواضح أن سبب عودتي إلى هذا الموضوع أنه لم يكتمل  فالمقالة الأولى لم تكن في الواقع أكثر من حلقة في موضوع كبير بحجمه و خطر  في ماهيته لا يمكن أن يأخذ حقه في مقالة أو اثنتين أو حتى أكثر من ذلك .  و لذلك فإن له من الأهمية و الخطورة ما يفرض أن يكون موضوعاً لحوارات و نقاشات  مطولة بين السعوديين جميعاً خصوصاً الساسة و علماء الدين و مختلف النخب  بمختلف مشاربهم . كان حديث الملك في جوهره عن دور علماء الدين في  الدولة و هؤلاء يمثلون في السعودية رموز المؤسسة الدينية التي هي في جانبها  الرسمي أحد أجهزة الدولة . و كنت ختمت مقالتي السابقة بالقول بأن «المؤسسة  الدينية الآن ضعيفة و خارج السياق . لا تعبّر عن مرحلتها و إنما عن حالها في  هذه المرحلة . و بما أنها واحدة من مؤسسات الدولة فإن ضعفها ينعكس على  الدولة أيضاً حتى و لو أنها تريد غير ذلك . من هنا فإن عتب الملك عبدالله بن  عبدالعزيز في محله تماماً لكنه عتب يجب أن يتوجه أيضاً إلى ما هو أبعد من  المؤسسة الدينية». و ما قصدته بهذا القول أن المصدر الأول لضعف المؤسسة  الدينية هو الجمود الفكري للمؤسسة ذاتها لكنه ليس المصدر الوحيد . فمن حيث  أن المؤسسة جزء من الدولة و ملزمة بمقتضى طبيعة العلاقة التي تربطها بهذه  الدولة بأنظمتها و سياساتها الداخلية و الخارجية ، و بالعمل وفقاً لهذه  الأنظمة وتلك السياسات ، فإن السؤال الذي يفرض بالضرورة نفسه هنا هو : هل أن  إصرار الدولة على إبقاء علاقتها بهذه المؤسسة على الصيغة التي كانت عليها  إبان قيام الدولة في مرحلتها الأولى في منتصف القرن الـ 12هـ (18م) كان له  دور في إضعاف المؤسسة و في جمودها الفكري ؟ الحقيقة أن بقاء هذه العلاقة على  ما كانت عليه من دون تغيير يواكب تغيّر التاريخ والمجتمع و بعد مرور أكثر  من قرنين و نصف القرن من الزمن من عمر الدولة هو مؤشر على جمود المؤسسة  لكنه قد يكون مؤشراً على ما هو أكثر من ذلك . التاريخ مهم للتعرف على  هذه العلاقة ومآلاتها , فالمؤسسة الدينية بتركيبتها ودورها و بما تعاني منه  من ضعف علمي و جمود فكري في المرحلة الحالية هي نتيجة لمسيرة تاريخية طويلة .  لا يمكن طبعاً الإلمام في مقالة واحدة بكل تفاصيل هذه المسيرة . كل ما يمكن  فعله هنا هو إضاءة أهم المفاصل فيها . في المرحلة الأولى كانت الحركة  الوهابية و هي النواة التأسيسية الأولى للمؤسسة الدينية لاحقاً الحاضن  الأول لفكرة الدولة و لهذا السبب أكثر من غيره كان العلماء و المشايخ آنذاك  في أوج قوتهم و تأثيرهم . يذكر مؤرخ الدولة عثمان بن بشر عن الشيخ محمد بن  عبدالوهاب أن «الأخماس و الزكاة و ما يُجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء  و جليلها كلها تدفع إليه ، يضعها حيث يشاء ، و لا يأخذ عبدالعزيز (بن محمد بن  سعود الإمام الثاني للدولة) و لا غيره من ذلك شيئاً إلا عن أمره (أمر  الشيخ). فبيده الحل و العقد ، و الأخذ و الإعطاء ، و التقديم و التأخير . و لا يركب  جيش ، و لا يصدر رأي من محمد (بن سعود) و عبدالعزيز إلا عن قوله». تشير  ملاحظة ابن بشر هذه إلى أن قوة المؤسسة الدينية حتى في تأثيرها السياسي  كانت في ذروتها آنذاك ، لكن ينبغي ملاحظة أمرين هنا : الأول أن الموقع  السياسي المتقدم للمشايخ في تلك المرحلة كان في الواقع حصراً على الشيخ  محمد باعتباره مؤسس الحركة ، الأمر الثاني أن مشايخ المؤسسة بمن فيهم ابن  عبدالوهاب نفسه كانوا يعون تماماً من خلال انتمائهم السلفي التقليدي ضرورة  تمييز المجال الديني بحقوقه و مهماته عن المجال السياسي ، و أن الحكم يعود  لولي الأمر . من هذه الزاوية ربما أن «الوهابية» هي الحركة الإسلامية  الوحيدة في التاريخ الإسلامي التي لم يتطلع علماؤها و مشايخها طوال ما يقرب  من ثلاثة قرون الآن إلى الحكم ، و ذلك التزاماً بما جاء في أحاديث نبوية  عدة عن هذا الموضوع بوجوب طاعة ولي الأمر و عدم منازعة الأمر أهله . في هذا  الإطار كان مصدر قوة المشايخ و تأثيرهم هو علمهم و مكانتهم في المجتمع  خصوصاً أنهم كانوا الطبقة المتعلمة الوحيدة في ذلك الزمن .
في المرحلة  أو الدولة السعودية الثانية لم يتراجع الموقع السياسي للعلماء كثيراً  مقارنة بما كان عليه في المرحلة الأولى إلا من ناحية أن الموقع السياسي  المتقدم للشيخ اختفى بوفاة مؤسس الحركة و أن مؤسسة الحكم السياسية استمرت  في نموها . في هذا الإطار احتفظ علماء الدين بمكانتهم المرتبطة بكونهم الفئة  المتعلمة الوحيدة و أن التعليم الديني كان التعليم الوحيد المتاح و من ثم  المصدر الوحيد للعلم والمعرفة . من هنا احتفظ المشايخ بقوة تأثيرهم داخل  الدولة من خلال هيمنتهم المعرفية على المجتمع و الدولة معاً . و برز هذا الدور  للمشايخ أثناء الحرب الأهلية التي انزلقت إليها الدولة آنذاك . و كان أطراف  الصراع يتنافسون على كسب مواقف العلماء و أشرت إلى شيء من ذلك في المقالة  السابقة. أما في الدولة الثالثة الحالية فيمكن القول بأن دور  العلماء و قوة تأثيرهم مر بثلاث مراحل كانت الأولى في زمن الملك عبدالعزيز  الذي قاد عملية إعادة تأسيس الدولة . و وصل دور العلماء و قوة تأثيرهم ذروته  في هذه المرحلة لكن في إطار أن مشروعية دورهم باتت تعتمد على الدولة بقدر  ما أن مشروعية الدولة تعتمد على دعمهم . و الواقع أن مشروعية كاريزما الملك  عبدالعزيز و مشروعية إنجازه بإعادة تأسيس الدولة كانت تنافس مكانة العلماء  في المجتمع . و تعبيراً عن هذه العلاقة ينقل خير الدين الزركلي أن الملك  عبدالعزيز «سمع مرة يقول ما لقيت الشيخ - عبدالله بن عبداللطيف - إلا و تصبب  العرق من إبطي». من ناحية ثانية يقول الزركلي إنه شهد في مجلس الملك مجيء  بعض المشايخ و عرضهم عليه رسالة «يستأذنونه في نشرها موضوعها الرد على  الشيعة . فوعدهم بالنظر فيها و لما انصرفوا دفعها إلى أحد ثقاته و أمره أن  يكتب على أوراق أخرى كل ما يبدو له من حذف و إصلاح و يعيدها إليه . وانكب  (الملك) بعد الصلاة في الصباح على إصلاح الرسالة بقلمه كما أصلحها الثقة  و لما جلس للناس جلسته المعتادة في الضحى أقبل الجماعة فلاطفهم . و سلمهم  الرسالة مليئة بالحذف و الإثبات بخطه وقلمه و قال لهم : إنكم أصحاب دين  و لستم أصحاب سياسة , فإذا أردتم نشر الرسالة فلتكن كما ترون». تتضح في هذا  المشهد قوة رجل الدولة النابعة من مكانته و من قناعته بضرورة خضوع الرؤية  الدينية للمصلحة السياسية للجميع . رفض رؤية العلماء في هذا الموضوع لكن  بطريقة ذكية و مهذبة مع أنه قبلها في مواضيع أخرى . ثم ينقل الزركلي بعد ذلك  عن حافظ وهبة المشهد الشهير الذي اعترض فيه بعض العلماء على إنشاء محطات  لاسلكية ، إذ قال هؤلاء البعض له «يا طويل العمر لقد غشك من أشار عليك  باستعمال التلغراف و إدخاله إلى بلادنا . فقال الملك : لقد أخطأتم فلم يغشنا  أحد , ثم قال : إخواني المشايخ أنتم الآن فوق رأسي تماسكوا بعضكم ببعض لا  تدعوني أهز رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم , و أنتم تعلمون أن من وقع على الأرض  لا يمكن أن يوضع فوق رأسي مرة ثانية». و هنا تتضح ثقة رجل الدولة في ما  يتعلق بموضوع تبين له أن علماء الدين لا يدركون طبيعته و لا المصلحة من  ورائه ، و أن موقفهم حياله ليس نابعاً عن علم شرعي و معرفة بالموضوع و إنما عن  انغلاق و ضيق في الرؤية . و ربما أن هذه الحادثة تمثل البدايات الأولى للضعف  الفكري لعلماء الدين و للمؤسسة الدينية . بقي أن نتعرف على المرحلتين الثانية  و الثالثة في الدولة الحالية ، و كيف أن ضعف المؤسسة الدينية ينعكس على  المؤسسة السياسية لأن العلاقة بينهما ليست من النوع الذي يأخذ اتجاهاً  واحداً و إنما علاقة و تأثر و تأثير .
نقلاً عن "الحياة"