يحيى الأمير
لا تفرق إشارة المرور في أي مكان في العالم بين الذاهبين إلى المسجد أو الذاهبين إلى الكنيسة ، إنما يجمعهم الامتثال لها بصفتها أداة تنظيمية لمرفق عام هو الطريق الذي يستخدمه الجميع وفق القانون الذي ينظم ذلك الاستخدام . هذا مثال رغم بساطته إلا أنه يمثل مدخلا لقراءة الفرضية التالية : لا يمكن للدولة الوطنية أن تنشأ و تستمر و تزدهر دون مسحة مدنية ، و للجدل فإن التعريف الذي أنطلق منه في فهم المدنية هو ما يلي : ألا تتحكم فئة انطلاقا من معتقداتها الخاصة ببقية الفئات و تحملهم عليها ، فالسيادة ليست للعقائد الخاصة و إنما للقانون و النظام الذي يساوي بين الجميع . لا القبيلة و لا الجماعة و لا أي كيان أيديولوجي يمكن له الامتثال لذلك النموذج القائم على النظام و القانون لأنها كيانات تنطلق من أيديولوجياتها بصفتها مبرر الانتماء لذلك الكيان و بالتالي فهي في خصومة مستمرة مع من يختلفون عنها و كل الحروب و الصراعات التي عرفها العالم كانت تحمل بعدا أيديولوجيا ظل يمثل وقودها الفعلي . في لحظة تاريخية و تحول حضاري كبير وصلت الإنسانية لأعظم إنجاز في تاريخها المعاصر و المتمثل في ظهور الدولة الوطنية . محور الدولة الوطنية و مرتكزها الأول هو التنوع و بالتالي الخروج من زمن الأيديولوجيات الجامعة إلى زمن الوطنية الجامعة , الشراكة في الأمن و البناء و المستقبل و التنمية و الحياة الكريمة . و في الدولة الوطنية ظهرت و تطورت المؤسسة بصفتها الجهاز المنظم و المدير لتلك التنوعات و لتلك المصالح المشتركة . تلك المؤسسات لا عقيدة لها ، و إنما هي حِزم من التنظيمات المحايدة و المجردة التي تتعامل دون أدنى تمييز أو تفرقة بين الجميع ، تلك المساواة هي لب اللحظة المدنية المحايدة في الدولة الوطنية . التنوع لا يصنع الثبات و لا يقبل به ، و الدولة الوطنية بطبعها دولة متغيرة متطورة مواكبة ، ذلك أن الممانعة و الخوف من المستقبل و محاولات الثبات عند نهج معين كلها صفات الكيانات الأيديولوجية التي تخاف من كل تحول أو تغيير لأنه سيمثل تهديدا للثبات الذي تمثله العقائدية , فالعقائد ثابتة ساكنة لا تتحرك . و لا ينطبق ذلك على الأيديولوجيات الدينية فقط بل يشمل الأيديولوجيات القومية و الحزبية أيضا . و بالتالي , كل الكيانات التي و إن بدت في شكل دولة وطنية و لكنها تدير الحياة العامة على أساس عقائدي أدى بها إلى حالة من الثبات هي في الواقع دول تواجه تحديات قد تهدد وجودها بالكامل . و كل البلدان التي تشهد حروبا و صراعات مستمرة إلى اليوم هي بلدان ذات بعد أيديولوجي و تتسم بالجمود و الخوف و الممانعة . لنأخذ نموذج حركة طالبان العقائدية المتشددة ، هل كان من الممكن لتلك الجماعة أن تصنع دولة وطنية ؟ بالطبع لا ، و السبب هنا ليس اقتصاديا و لا سياسيا و لكنه مرتبط بالدرجة الأولى بعقيدة الحركة التي تجعل منها محورا للكيان و لعلاقات الأفراد مع المؤسسة ، المؤسسة التي هناك ليست مؤسسة محايدة بل عقائدية و التنوع هناك لا مكان له . إيران أيضا رغم وجود الثروات إلا أن النظام هناك بات عبئا على المواطنين و على العالم أيضا ، فالمؤسسة هناك ليست مدنية محايدة بل مؤدلجة ثابتة و ذات مشروع عقائدي طائفي و ليست ذات مشروع وطني . حزب الله في لبنان و الحوثيون في اليمن و داعش و الإخوان المسلمون و تركيا و قطر أيضا كلها جماعات أو كيانات تواجه أزمات في داخلها أو في محيطها لأنها انتمت في لحظة ما لفكر أو عقيدة أو مشروع لا علاقة له بسلوك و قيم الدولة الوطنية الحديثة . المستقبل و الاستقرار و التنمية كلها ترتبط بالتنوع و سيادة المؤسسات و القانون و النظام و إشارة المرور التي لا تفرق بين ملل و أشكال الواقفين على الضوء الأحمر .