السيد ولد أباه
آخر مرة قابلت فيها الشيخ طه جابر العلواني كانت في مسقط قبل سنوات ، سهرنا على هامش إحدى الندوات العلمية و وجدته شديد الإحباط و القلق من مصير ما دعاه بالمشروع الإسلامي في بعديه السياسي و الفكري . لقد اعتبر العلواني أن مدرسة «الإخوان» التي اقترب منها في شبابه فشلت فشلاً ذريعاً في أي من أهدافها المعلنة : تجديد الدين ، و بناء الدولة «الإسلامية» و ظهر له أن مشروع الإسلام السياسي كله أصبح متجاوزاً ، و لم يبق للمشتغلين في الفكر الإسلامي إلا أن يشرعوا في المهنة العاجلة التي تتطلبها إعادة بناء المنظومة الشرعية في مقوماتها العقدية و الأصولية و الفقهية . العلواني تحدث بالمرارة نفسها عن تعطل مشروع «إسلامية المعرفة» الذي كان أول من تبناه برنامج عمل في معهد الفكر الإسلامي بواشنطن الذي كان من مؤسسيه و لم يكن حديثه عن أسباب إخفاق المشروع مقنعاً بالنسبة لي لأَني اعتبرت أن الخلل في الرؤية و المنهج و ليس التطبيق . و رغم أن العلواني فقيه ضليع و أصولي متمكن فإنه بقدر ما لم يرض دعاة الأيديولوجيا الدينية من «الإخوان» و غيرهم ، فإنه لم يرض عموم الفقهاء من أصحاب الدراسات الإسلامية الكلاسيكية بآرائه الجريئة التي اشتهر بها ، و منها موقفه من «حد الردة» في كتابه «لا إكراه في الدين» الذي بين فيه أن المقصود بالعقوبة هو الخارج على الجماعة و حامل السيف المهدد لأمن الدولة و ليس مجرد المتخلي عن الدين الذي لا إكراه فيه أصلًا . و للعلواني رأي مفصل في العقوبات الشرعية لم يكن يجهر به كثيراً شرح لي بالتفصيل أن ما يسمي بالحدود هي عقوبات قصوى رادعة و ليست أحكاماً ميكانيكية للتنفيذ ، يمكن في الحالات الاستثنائية اللجوء إليها لكنها لا تطبق في غالب الحال مستشهداً بشيخه الفقيه الأزهري الأشهر «محمد أبو زهرة» في القول بنسخ حد الرجم بالجلد . بين الشيخ العلواني و السياسي و الفقيه السوداني حسن الترابي اللذين رحلا هذا الشهر سمات كثيرة متشابهة في الشأن الفكري و إن اختلفا في طبيعة التجربة السياسية . فرغم أن الترابي قانوني التكوين الأكاديمي فإنه اشتغل بالعلوم الشرعية تفسيراً و أصولًا ، و كان له منذ بداية الثمانينيات رسائل و كتيبات في تجديد أصول الفقه و تأصيل الفن و التحرير الإسلامي للمرأة أثارت وقتها جدلاً واسعاً في صفوف تيارات الإسلام السياسي التي وجدتها شاذة و جريئة ، و قد زادت جرأة الترابي في الفتوى و الفقه في السنوات الأخيرة بآرائه حول إمامة المرأة للرجال و جواز زواج المسلمة من الكتابي . في المجال الأصولي و التأويلي تقاربت أفكار الترابي و العلواني خصوصاً في منطلقهما الأساس الذي هو تجاوز المنظومة الأصولية الكلاسيكية التي جمدت على القياسات الشكلية الصورية و المذهبية الضيقة ، فذهبا إلى محاولة صياغة جديدة للأطروحة المقاصدية و نظرية الضرورات الخمس ، و دعيا إلى التوسع في آليات الاستحسان و الاستصحاب ، بيد أن هذه الآراء ظلت متناثرة أولية لم تصل إلى مستوى النظرية التجديدية الحقيقية لأصول الفقه على غرار المقاربة التجديدية الشاملة التي بلورها في السنوات الأخيرة العلامة عبد الله بن بية الذي كان العلواني يعول على جهوده كثيراً في سد ثغرات المشاريع الاجتهادية الراهنة . و في كل الأحوال كانت كتابات العلواني و الترابي الفكرية و الفقهية صادرة عن وعي جوهري بأن تيار الإسلام السياسي المتفرع كله عن «الإخوان» ظل ضحل الإنتاج العلمي و ضعيف الإبداع الفكري و من ثم كل إخفاقاته و هزائمه . بيد أن ما يميز الترابي أساساً عن الفقيه العراقي هو تجربته السياسية المثيرة و المأساوية على طريقة التراجيديا اليونانية . لقد شكل الترابي جزءاً أساسياً من المشهد السياسي السوداني منذ سنوات الاستقلال الأولى إلى رحيله ، و انتقل مرات عديدة ما بين موقع الشريك في الحكم و صاحب القرار إلى موقع السجين ، و قاد الانتفاضات الشعبية ضد الحكومات العسكرية باسم الديمقراطية متحالفاً مع أقصى تشكيلات اليسار و اليمين إلى الإسهام في الانقلاب العسكري على الديمقراطية الوليدة الواعدة (1968-1989). حارب الترابي الرئيس الأسبق جعفر النميري و تحول في آخر عهده إلى أقرب مستشاريه و شارك في قراراته المثيرة المتعلقة بأسلمة القوانين ، كما تقاسم السلطة مع الرئيس الحالي عمر البشير و أراد تحويل السودان في أيام «ثورة الإنقاذ» إلى نمط من كوبا العربية المسلمة ، بحيث تكون كعبة كل التنظيمات الراديكالية الدينية و القومية قبل أن تقع القطيعة بين الفقيه السياسي و الضابط الرئيس ، فيرجع الترابي إلى مواقفه التحريضية و يتحالف مع الجماعات الانفصالية الجنوبية التي طالما حاربها و يتحول إلى مكون أساسي من مكونات جبهة المعارضة المطالبة بالتغيير الديمقراطي . لم ينجح الترابي الفقيه و لا الترابي المناضل في مساره العلمي السياسي رغم مؤهلاته البارزة بيد أنه طبع المشهد السياسي السوداني طيلة نصف قرن ، أما العلواني فانتهى به الحال إلى عزلة اضطرارية في القاهرة بعيداً عن بلاده التي كان يتألم في سنوات عمره الأخيرة حسرة على ما أصابها من فتنة أهلية و حرب طائفية بغيضة و مدمرة .
تعليق : محتاجين مفكرين و مجددين للدين و فهمه بدل هالفكر المتخلف الموجود الذي انتج داعش و القاعدة . سوا" اتفقت أو اختلفت لكن الاجتهاد مطلوب بشدة للخروج من هذا النفق المظلم و فتح اذهان الناس على التفكير و النقد بدل التسليم الاعمى و اتباع كل ناعق جاهل حمار في فهمه و تفسيره . عندما ترى هولاء الهمج يهاجمون عالم دين مثل احمد الغامدي لانه ظهر في الاعلام مع زوجته كاشفة الوجة و يتطاول عليه الاقزام الاعراب الهمج تعرف أننا في وضع سيء جدا" لفهم الدين و تفسيره .