د.شاكر النابلسي
لا تزال مسألة تجديد الفكر الإسلامي وقولبته ليصبح صالحاً لعصرنا المتجدد والمتغير تغيراً سريعاً جداً، الشغل الشاغل لكثير من المفكرين العرب والمسلمين منذ القرن التاسع عشر الميلادي. ولكن جهود معظم هؤلاء ذهبت أدراج الرياح.
ولم تفلح هذه الجهود إلا بالإصلاح والتجديد الضيق جداً. ورغم هذا الاصلاح والتجديد الضيق الخاص بشؤون المرأة في الدرجة الأولى إلا أن الإصلاح والتجديد لم يستمرا طويلاً.
قبل أن نسترسل في معرفة قدرة الليبراليين على تجديد الإسلام، دعونا نعرف ماذا نعني بعبارة «تجديد الإسلام»؟
الشاعر والمفكر الهندي المعروف (محمد اقبال) كتب كتابه: «تجديد التفكير الديني في الإسلام» وترجمه عن الانجليزية الراحل عباس محمود العقاد. وقد أعجبني في عنوان الكتاب أنه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» وليس تجديد الإسلام. فما يلزمنا هذه الأيام حقاً تجديد التفكير الديني، تجديداً يرقى إلى تحديات العصر الحديث وقيمه المنتشرة. ويقول محمد إقبال في مقدمة كتابه مبرراً ضرورة الدعوة إلى تجديد التفكير الديني في الإسلام:
«إن الجيل الحديث بحكم ما أدركه من تطور في نواحي تفكيره، قد اعتاد التفكير الواقعي، ذلك النوع من التفكير الذي زكَّاه الإسلام نفسه في المراحل الأولى من تاريخه الثقافي على الأقل».
ونحن - كعرب - أمة عريقة جداً. فهل هذه العراقة سبب نكوصنا الدائم إلى ماضينا وعجزنا عن قبول التجديد؟
فالمفكر التونسي العفيف الأخضر، يؤكد أن الأمم ذات التراث العريق، تغدو بنكوصها إلى ماضيها المجيد، عاجزة عن قبول التجديد.
فالتراث يستوجب التغيير والتجديد والحركة، لكي يستطيع خدمة الحياة التي تستحضره. وإلا، فإنه يصبح تراثاً متحفياً للفرجة والتذكر. والحداثة، هي «الحالة الناتجة عن تطور زمني، يسمح للوضع القائم المتجدد تلقائياً أن يُعبِّر بشكل أو بآخر عن روح العصر». كما يقول المفكران التونسيان: رشيدة وفتحي التريكي.
إن اشكالية التراث العربي تُعدُّ واحدة من عوائق تقدم الحداثة في المجتمع العربي، وفي الفكر العربي، وكيفية التعامل مع هذا التراث.
إنها قدر الأمة العربية التي يجب أن تتعايش معه حتى تعيش.
والهروب منها هو هروب إلى الأمام.
وترتيب البيت معها أقل عسراً من ترتيب البيت بدونه.
وتجديد التراث أقل خطورة من إهماله، أو القفز عليه، وإن كان التجديد يتطلب وقتاً طويلاً وثمناً غالياً.
فالتراث العربي، ليس مجرد موضوع ما، وإنما هو محور رئيسي من المحاور التي دارت حولها إشكاليات سياسية، واقتصادية، وفكرية، واجتماعية، كثيرة ومنها إشكالية الحداثة. فقد ظـل الفكر العربي حائراً، تائهاً، ملتبساً، غامضاً، متردداً في تعامله مع التراث.
إن التجديد يعني اتخاذ بعض الخطوات الفعلية التالية:
1- أن يتولى المثقفون الأصليون فقط، قضية تجديد الفكر الديني. ووظيفة المثقف في هذه الحالة، الدفاع عن الحقيقة ضد غوغاء الجماهير، وعن العقل ضد النقل، وعن التفكير ضد التكفير، وعن التجديد ضد التقليد، وعن الحداثة ضد القدامة، وعن الصيرورة ضد الاستمرارية، وعن المتغيرات التاريخية ضد الثوابت العابرة للتاريخ؛ أي الصالحة - زعماً - لكل زمان ومكان، وعن التقدم المعرفي والاجتماعي ضد التمسك السقيم العقيم بما قبل العلم وقبل التاريخ، وعن ضرورة نقد الذات، لجعلها معاصرة لعصرها ضد تمجيد الذات النرجسي المتخلف والمُخلّف للوعي، وعن الانتماء فكراً ووجداناً للقرية الكونية ضد الانطواء الفصامي على الهوية.
2- أن يكون المدخل الوحيد للإصلاح هو التجديد في المواد والمناهج التي تتعلق بمقرّرات المدارس والحوزات والجامعات الشرعية، التي تلقن التعليم في مواضيع المعارف ومناهج التربية في التعليم العام، بما يناسب مقتضيات واقعنا وخصوصياتنا الحضارية.
وضوابط التجديد، ومناهجه، وأهل اختصاصه، مدوّن ومعلوم في عقول العلماء الثقاة، أو أهل الاختصاص من أهل الذكر.
3- أن لا يخضع الإصلاح والتجديد للدعوات الخارجية، إلا بالتوافق العرضي غير المقصود. ويجب أن نتعظ بقول الساسة الأميركان أنفسهم، قبل أكثر من ربع قرن بأن «من يتدخل في مناهجنا الدراسية سنعتبره بمثابة إعلان حرب علينا».
ولهذا، يصبح التحدي الأول لأي نقاش في هذه القضايا، هو كيفية عزل مسألة، الضغوط الخارجية الاميركية عن الضرورات الملحة للمضي قدماً في طريق التجديد، انطلاقا من حاجات مصيرية ملحة، نابعة من داخل المجتمعات، تتطلبها مقتضيات التطوير العصري والنهوض الحضاري. لأن الاستسلام لفكرة أن الحديث عن التجديد باعتباره مؤامرة اميركية ضدنا ، يؤدي إلى الوقوع في فخ إنكار الحاجة إلى التجديد ، وتأجيل الخوض في هذه القضية لآجال طويلة غير معلومة، مما يساهم في تفاقم المأزق الحضاري لعقود طويلة قادمة، ربما تؤدي إلى خروجنا من التاريخ، أو بالأحرى الخروج من المستقبل.
4- وأخيراً، أن يبتعد المتشددون عن (اللغوصة) في قضية تجديد التفكير ، حيث أن التشدد يعني هوس بالنقاوة. نقاوة العرق، نقاوة الهوية، نقاوة اللسان من اللحن والدخيل من الألفاظ، ورُهاب التطور والتجديد. وإذا أردنا الاستفادة من العولمة المستقبلية في العالم العربي، فعلينا العمل على تعميق الحس النقدي، والحض على الابتكار والتجديد.