محمد فهد الحارثي
حاول أن تخرج من نفس الصورة , جرب أن تخرج من الصور المتكررة التي تراها و تسمعها كل يوم . حاول أن تنظر للأشياء و كأنك تراها للمرة الأولى , تكتشف حقيقة واقع لم يتخيلها أحد . استطاعت الجرعة الإعلامية اليومية لمناظر الدمار و القتل و التفجير أن تقتل فينا الإحساس . أصبحت القضية التي تتنافس فيها الوكالات و الصحف هي أرقام الضحايا , فكلما كان الرقم مرتفعاً كان الخبر مهماً . اختزلنا حياة الناس في أرقام و أصبحنا نتلقى الخبر بكل بشاعته و قساوته و نتجاوزه ببرود و كأن شيئاً لم يكن . أصبح واقع اللامبالاة جزءاً من ثقافة المواطن العربي , فالضغوطات و البحث عن لقمة العيش تجعل الشخص يتعامل مع هذه الأخبار بطريقة و ليكن . و كأن ما يعرض هو مسرحية يتابعها بعدم اهتمام مع أن المصيبة أنه هو نفسه قد يكون ضحيتها في يوم من الأيام . لكنها حالة التبلد التي أصابت الكثيرين فما عاد هناك ما يستحق الاهتمام . إنها انعكاس لحالة إحباط دفينة و انكسار أحلام تترجم في تجاهل متعمد لهذه الأحداث . و أصبحت القضايا الكبيرة و الأحداث التي تهز المجتمع مجرد أشياء هامشية في حياة الإنسان العربي . و من ينظر لردود الفعل للجريمة البشعة التي ارتكبتها عصابة داعش في حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة يجد أنها أثارت استنكار الناس ليس لأنه قتل و كأن هذا أصبح أمراً طبيعياً بل لكيفية القتل . حينما تحول هذا المشهد إلى لقطة تتناقلها شبكات التواصل الاجتماعي و كأننا نستعرض لقطة فيلم هوليوودي . أي واقع هذه الذي نعيشه ؟ جرب أن تخرج من الصورة اليومية لترى الواقع للوهلة الأولى, ما هذا الذي يحدث ؟ ميلشيات و عصابات و حروب و دول تنهار و تردٍ في الأوضاع و مستقبل مقلق . كيف انتهى الواقع العربي إلى هذا الحال ؟ و هل نكرر أسطوانة المؤامرة .. و إلى متى ؟ فشل العرب في مشروع التنمية سواء للإنسان أو للكيان سبب مباشر لهذا الواقع المأساوي . فالإنسان العربي فقد البوصلة و أصبحت معاناته اليومية هي أساس همه و تفكيره , و أصبحت السلبية جزءاً من هويته . و تحول إلى ضحية لما يسمى بصدمة القذيفة و هو تعبير استخدم بعد الحرب العالمية الأولى عندما كانوا الجنود يشاهدون مناظر القتل و التفجير و الضحايا , ما جعل فيهم شعور اللامبالاة و غياب الإحساس بالتفاعل الاجتماعي . و أوجد شعور الغربة لدى الفرد لأنه فقد الانتماء للجماعة . و هذا الواقع الذي نراه اليوم في المجتمع العربي من غياب الإحساس بالتفاعل الاجتماعي بينما وجود إحساس المسؤولية و التفاعل الاجتماعي هو الذي يولد مجتمعات قادرة على صنع التغيير نحو الأفضل و رفض الظواهر الخارجة عن النسق العام . هو ذاك الفعل الذي يتصدى لتيارات التطرف و التكفير و القمع و ينحاز للإنسان و الوسطية و الاعتدال . حينما تصبح لغة التخوين و التهديد و ادعاء امتلاك الحقيقة هي اللغة السائدة ، يكون الإنسان العادي الذي يحلم بحياة كريمة و مستقبل آمن هو الضحية . جزء من مشكلة الإنسان العربي هو خضوعه لمفهوم السلطة و التي هي ليست بالضرورة سلطة الحكومة بل حتى سلطة المجتمع نفسها تجعل الفرد العربي غير قادر على أن يكون ذاته فيصبح خطابه هو الخطاب الذي يتوقعه منه المجتمع . و بالتالي تصبح الازدواجية في حياته بين خطاب و فعل يمارسه ليتوافق مع المجتمع و ربما خطاب و فعل خاص فيه الذي يجد فيه نفسه و ذاته . الازداوجية أيضاً تسهم بدورها في خلق السلبية لدى الفرد العربي , هو يعلم أن ما يقوله ليس بالضرورة ما يؤمن به و من هنا فتفاعله مع قضايا مجتمعه سلبي لأنه لم يكن ذاته . القمع يولد شعوباً غير قادرة على صنع القرار و على تحديد مسار مستقبلها . فهي شعوب تعيش تحت الوصاية و تتعود على تحجيم قدرة الإبداع و التفكير من أجل أن تتواءم مع الواقع و تتماهى مع المحيط الذي تعيش فيه . لذلك نرى الشعوب التي كانت مقموعة من سلطة الدولة مثل العراق و ليبيا و سوريا كيف فشلت الشعوب في مسك زمام المبادرة و أصبحت هي نفسها ضحية لأخطاء تمارسها و تحولت البنية الاجتماعية لديها إلى ميلشيات و عصابات و الضحية هو الإنسان . هذا يؤكد أن القمع السياسي أو الاجتماعي يهمش استقلالية الفرد و تفكيره و رؤيته و يتحول إلى رقم في مجموع و هنا تنتهي الطموحات و تصبح القضية لقمة العيش فقط . نحتاج أن نخرج من إطار الصورة و أن ننظر للأشياء بواقعها و حقيقتها , التغيير لا يصنعه القرار السياسي , التغيير ينطلق من الفرد , من قناعة كل فرد بأنه يستطيع أن يسهم في التغيير , حينها يتصدى الإنسان للسلبيات و الأفكار المتطرفة و لثقافة القطيع ، هنا يبدأ يدرك الفرد أهميته كعنصر مؤثر و دوره كصانع للمستقبل . المجتمعات المتطورة هي التي ترتكز على استقلالية الفرد و حقه في الاختلاف و تحترم قراراه , و لذلك مؤشرات الرأي العام مهمة لأنها صوت الناس متى ما استطاع الشخص لدينا أن يكون ذاته فقد وضعنا الخطوة الأهم في بناء مجتمع المستقبل.