داود الشريان
لم يعد الإرهاب يحارب حاضرنا و مستقبلنا فحسب بل صار يدمِّر تاريخنا أيضاً . الجريمة البشعة التي استهدفت مدنيين في متحف «باردو» في تونس كرّست الهدف الثالث فضلاً عن أنها جمعت الأهداف كلها ، البشر و الاقتصاد و التاريخ . تدمير المتاحف و الآثار بهذه الهمجية زاد تشويه صورة الإسلام في نظر الآخرين . من أين جاء هؤلاء الإرهابيون بهذا الموقف المتوحّش إزاء الرموز الحضارية و الآثار ؟ بعض الفقهاء يرى أن الإسلام حرَّم التماثيل و الصور المجسّمة لحرصه على حماية التوحيد و عدم المس بالعقيدة . و يستند هؤلاء إلى تحطيم المسلمين التماثيل حول الكعبة و داخلها يوم فتح مكة على رغم أن تحطيمها في ذلك اليوم كانت له دواعٍ آنيّة للتَّسليم بما هو واقع ، بدليل أن الفتوحات الإسلامية بعد ذلك لم تتعرّض للآثار و أشهرها آثار مصر و أفغانستان و الهند . الدكتور محمد عمارة له رأي مهم في هذا الموضوع و هو يلاحظ أن للقرآن الكريم مواقف متعددة إزاء التماثيل أو الآثار ، ففي عصر النبي سليمان جعل القرآن صُنْعَ التماثيل نعمة من نِعَم الله على سيدنا سليمان . و يدلِّل على هذا الرأي بالآية التي وردت في سورة سبأ (الآية 13): «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ». لكن هذا الموقف وفق عمارة تغيَّر في عصر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام بعد أن أصبحت التماثيل تُعبد من دون الله . تكرَّر ذلك عندما كانت الوثنيّة العربية الجاهلية تتّخذ الأصنام و التماثيل معبودات . و يخلص عمارة الى أن موقف القرآن من الآثار «يتعلق بالمقاصد إزاء هذه التماثيل». موقف عمارة يتطابق مع رأي الشيخ محمد عبده الذي يعتبر أن الآثار لا تمثل خطراً على عقيدة التوحيد وهي جزء من الذاكرة التاريخيّة للشعوب . أُم المؤمنين السيدة عائشة تروي في الحديث أنها اشترت «نمطاً» نسيجاً من صوف أو بساطاً عليه صورة ، و الصورة في العهد النبوي تعني صورة الصنم المعبود و هي اشترت قماشاً عليه صُوَر علّقته على نافذة في منزل النبي لكنه عليه السلام كَرِهَ الذي صنعته عائشة . فقال لها الرسول : «أميطي عنا قِرَامَك هذا فإن تصاويره لا تزال تعرض لي في صلاتي» أي أن الصُّوَر كانت تشغل النبي و هو يصلي . فقامت أُم المؤمنين بتقطيع الستارة التي تحمل صور الأوْثان وجعلت منها وسائد يتكئ عليها رسولنا . بعض الفقهاء يفسِّر فعل رسولنا الكريم بأنه استخدمها للامتهان . لو كان الرسول الكريم يريد امتهانها بهدف التحريم لوجد للامتهان طريقة أبلغ من الاتكاء عليها . لا شك في أن فقهاء و تابعين أحلّوا اقتناء التماثيل التي تُستخدم للزينة و بعضهم صنع التماثيل و مارس النحت و التشكيل . و السيدة عائشة تروي في الحديث فتقول : «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً و أنا ألعب بالبنات أي تماثيل البنات فقال : ما هذا يا عائشة ؟ قلت : خيل سليمان فضحك». الأكيد أن الحضارة التي صنعت قصور الأندلس لم تكن بدعة فضلاً عن أن المسلمين نقلوا فنونهم في النحت و العمارة و جسّدوها في تلك القصور . اليوم ينقل الإرهابيون معاولهم لهدم ذاكرتنا المشرقة بعد أن دمّروا صورتنا الراهنة.