محمد ال الشيخ
الدواعش كالخوارج في صدر الإسلام يبيحون قتل من اعتبروهم كفارا أصليين أو مرتدين حتى و إن كانوا في المساجد ركعا سجدا و دليلهم أن «عبدالله بن خطل» شاعر قريش هجا الرسول صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه و ثلاثة آخرين معه ، و حينما فتح مكة أمر بقتلهم قائلا (اقتلوهم و لو تعلقوا بأستار الكعبة) و استدل الدواعش بهذه المقولة التي تنسب إلى الرسول و اعتبروها دليلا كافيا على أن الكافر والمرتد يجب قتله ولو كان في المسجد . استدلال الدواعش بهذه الحادثة بعد استحضارها من كتب التراث يدعونا اليوم بعد مرور ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمن إلى إعادة التأمل و التفكير بعقلانية في طرق الاستدلال السلفية بالنصوص المأثورة التي وردت عن فترة النبوة ، و السبب أنها أولا (ظنية الثبوت) و ليست قطعية أو يقينية ثابتة ، و ثانيا أن الفتوى تتغير مع تغير الزمان و المكان كما يقول الاصوليون فما يصلح لزمن السلف ليس بالضرورة أن يتماهى مع زمننا . إضافة إلى أن الإمام أبو حنيفة النعمان و هو عميد مدرسة أهل الرأي و مؤسس المذهب الحنفي كان يفعـل الرأي في استنباطاته الفقهية و لا يأخذ بالحديث النبوي إلا لماما كما هو مشهور عن أصحاب هذه المدرسة الفقهية عند استنباط الأحكام . و الإمام أبوحنيفة كان تابعيا ، أي من الجيل الأول الذي أدرك بعض الصحابة و روى عنهم ، و في المقابل نجد (اصحاب الحديث) و هم من يحيدون الرأي و معه العقل و يعتمدون على النقل حتى ارتقوا ببعض كتب الحديث و جعلوها في درجة القرآن من حيث مقاربة اليقينية و من ثم الإلزام بما ورد فيها حتى و إن اختلفت مع النص القراني . و عندما تحاول أن تدحض هذا الحديث أو تلك الرواية و تشكك بالتالي في صحة نسبته إلى الرسول بما جاء في القران الذي تكفل الله جل و علا بحفظه ، يلجأون إلى (تأويل) القران بما يتوافق مع الحديث لتمريره و الارتقاء به إلى درجة الحقيقة المطلقة و ليست النسبية أو الظنية و الأمثلة على ذلك كثيرة و في مواضع مختلفة . و نحن اليوم أحوج ما نكون لفقه (اصحاب الرأي) و لعل من الحكمة الإلهية أن (المذهب الحنفي) و هو الذي يأخذ بالرأي و العقل هو المذهب الأكثر اتشارا بين المسلمين قاطبة ، كما أنه المذهب الذي ألف فقهاؤه في كل الفروع الفقهية الكلية و الفرعية ، إضافة إلى أنه المصدر الأول للمدونات الفقهية التي جرى تحويلها فيما بعد إلى مواد قانونية حديثة كالعمل الفقهي القانوني الشهير (مجلة الأحكام الشرعية) التي جرى اعتمادها كمرجع في المحاكم العثمانية كما هو معروف . و من يقرأ في فكر الإرهاب و فقه فرق العنف المتأسلمة التي لا نعرف لها علاجا حتى اليوم فلن يخطئ بصره - إذا كان موضوعيا - أن هذه الفرق الدموية تنتقي أدلتها من كتب أهل الحديث ، و تحيد فقه أهل الرأي ، و لا تكترث بالعقل ، و لا تهمتم بمصلحة الإسلام و المسلمين فالمعيار عندهم (صحة سند الحديث) حسب معايير أهل الحديث لا صحة و معقولية المتن نفسه . ارتقوا بها فجعلوها لا تقبل النقد و من تكلم فيها و ناقشها و قارنها بما جاء في القرآن أو تحدث عن تناقضاتها رغم أنها في معاييرهم كلها صحيحة ، وصموا من ينقدها بالزندقة و بعضهم يصفون قوله بالكفر البواح و من هنا جاء الإرهاب و تشكلت بنيته التحتية التي يعاني منها العالم من أقصاه إلى أقصاه . داعش - مثلا - هي أفضل مثالا لأهل الحديث و فقهائهم ، فكل استدلالاتهم و تأصيلات الدواعش تقع بين دائرتين لا ثالثة لهما ، الدائرة الأولى حديث ورد في كتب الحديث الموسومة بالصحيحة ، و الدائرة الثانية مقولة لأحد أساطين من يأخدون بالحديث مجردا من ظروف زمنه الذي قيل فيه كفتاوى ابن تيمية وابن القيم و ابن كثير مثلا لا حصرا , و لا يخرجون البتة في ممارساتهم و تأصيلهم عن الاستدلال و اتباع مقولات و فتاوى هؤلاء في الغالب ، و عد إلى مجلتهم (دابق) التي هي بمثابة (الجريدة الرسمية) لخلافتهم المزعومة تجد ما أقوله جليا واضحا . و من الغباء أن تتعامل مع هذه الكتب و هؤلاء الفقهاء و تقدمهم على أنهم علماء مرجعيون لنا ، و كتبهم و تراثهم و مدوناتهم مرجعية للشريعة كما يجب أن نكون ، ثم إذا ما جاء (الدواعش) و نفذوا ما يقولون تنفيذا حرفيا ، قلت : هؤلاء مخطؤون و جهلاء و لا يعرفون الإسلام على حقيقته . نقي مراجعك و انقدها ، و لا تقدس السلف و مقولاتهم قبل أن تلوم الدواعش إذا ما اتبعوها و جعلوا منها و ما تحتويه خارطة طريق لهم .