رشيد الخيون
لو قُيض للخليفة هارون الرشيد(ت193هـ) و للإمام موسى بن جعفر الكاظم(ت183هـ) حضور جلسة البرلمان العِراقي(16/9/2018) ببغداد ، و سماع اسميهما قد صار موضوعاً للجلسة و محوراً في السِياسة العِراقية بعد اثني عشر قرناً مِن الزمان ، لاهتزا ضحكاً و بكاءً على أحوال مشرعي و ساسة آخر الزمان ، و كأن أبا الطيب المتنبي (اغتيل354هـ) قصد العِراق لا مصر : « و كم ذا بمصرَ من المضحكاتِ و لكنه ضحك كالبكاء/سكبت عليها الدِماء دموعاً أرطب تربتها بالدِماء »(قصيدة : الديوان). فما حدث في تلك الجلسة و هي الأُولى بعد انتخاب رئيس للبرلمان تُرطب الطَّريق للطائفية بالدِماء ، بإعادة معارك الزمان القديم بين الرشيد و الكاظم ، بين الخليفة المأمون(ت218هـ) و الإمام الرِضا(ت203هـ). تقدم عضو البرلمان أكبر الأعضاء سناً و المنتخب عن التيار المدني و من النجف لا غيرها ، بمطالعة أراد شد همة البرلمان الجديد للنظر في أحوال بغداد التي تسير من سيئ إلى أسوأ ، و ما إن نطق بعبارة « بغداد الرشيد و المأمون » قفز النائب عن حزب «الفضيلة الإسلامي» محتجاً لا متألماً مِما آلت إليه بغداد مِن رداءة و تخلف و انهيار ، جاء غضبه على قرن اسم بغداد بمن أوصلها إلى ذروة مجدها التاريخي الرشيد و نجله المأمون ، لأنهما « وصمة عار على بغداد ... هؤلاء الذين قتلوا أئمة أهل البيت »! لا شك أن الرشيد حكم بغداد لثلاثة و عشرين عاماً و المأمون لعشرين عاماً ، بالنسبة للأخير منها ستة أعوام كان بخراسان حيث عاد لها(204هـ)، و وجدها مدمرة عن بكرة أبيها فأعاد إعمارها كمركز سياسي و علمي و ثقافي خلال سنوات قليلة ، بعد أن جعلها والده قِبلة للمجد في زمانه ، و قنوات الري على ما يُرام ، و طلبة العِلم تأتيها مِن كل أصقاع الأرض ، مع كثرة الثَّورات و الانقسامات ، ففي كل يوم تنفصل ولاية عنها و تُعاد . نسأل نائب «الفضيلة» : مرت الآن خمسة عشر عاماً ، ماذا حققتم ! هل مِن «فضيلة» سيذكرها التاريخ لكم ؟! ليس بعد اثني عشر قرناً ، لنقل بعد عامين أو أكثر مِن يومنا هذا ؟! ماذا سيُؤرخ للبصرة غير العطش و تهريب النفط و الاغتيالات المتواصلة ، و السَطو على الأرض ؟! هل سيؤرخ لبغداد المستوى العلمي الذي يُذكَر بدار الحكمة التي أنشأها «وصمة العار»(الرشيد) على حد عبارة النائب المذكور ؟! أم ثقافة الجهل ؟! يتحدث النائب و كأن المطلوب مِن الرشيد و المأمون أن يكونا ديمقراطيين و لهما برلمان ، و ليسا حكم الاستبداد كان سمة العصور ، عباسية أو فاطمية ، و هل يتوقع الذين يفكرون بمنطق ما قبل ألف عام و يزيد أن الأئمة سيكونون ديمقراطيين مثلاً في ما لو حكموا ، و لا يسعون إلى القضاء على الثورات و يصفونها بالتمرد ؟! لهذا و بُعداً عن التورط في السلطة التي مِن طبيعتها الاستبداد ، قال جعفر الصادق(ت148هـ) لمِن عرضها عليه : « لستُ بصاحبكم »، و حرق الرِسالة ناصحاً أولاد عمه بعدم الاستجابة ، و هذه مثبتة في أقدم مصادر محسوبة على الشِيعة(اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي ، المسعودي ، مروج الذهب)، و لا الصادق و لا والده تقدما لنصرة عمه زيد بن علي(قُتل121هـ)، و لم ينصر أولاد عمه في ثورتهما(145هـ) على أبي جعفر المنصور(ت158هـ)، و كانت صلته بالأخير مميزة . لا نريد إعادة ما كتبناه في قضية سجن الإمام الكاظم و ما هو دور ابن أخيه في التحريض ضده ، لهذا أتمنى على النائب أن يقرأ كتاب مؤسسة المرجعية الشيخ المفيد(ت413هـ) : «تصحيح اعتقادات الإمامية»، ليعرف أن الأئمة الاثني عشر لم يُقتلوا جميعاً بعد الإمام الحسين(قُتل 61هـ)، و لو قرأ كتاب «مقاتل الطالبيين»، و مؤلفه شيعي معروف ليرى ما حصل بين السلطات و الثَّورات ، و كيف أن نكبة البرامكة(187هـ) كان أحد أبرز أسبابها قتل الوزير البرمكي للعلوي عبد الله بن الحسن المعروف بالأفطس ، و سماه الرشيد بـ«ابن عمي». مرت البشرية بعصور تعاقبت بين نور و ظلام ، و ظلم و عدل ، فإذا أصبحت السياسة محاكمة للتاريخ على طريقة ما حدث في البرلمان العراقي مؤخراً ، فلتجرد السُيوف و توجه الرماح و تُشعل النِيران ، الشِيعة يرفعون الثأر مِن الأمويين و العباسيين و السُنة ينادون بالثأر مِن الفاطميين و الصفويين ، إنها حروب بالنيابة عن الأموات ، فأخذوا كم تتكرر مفردة الثأر بين الجماعات الدِينية ، و ليفهم رافع هذا شُعار سيأتي مَن يُطالبه بالثأر أيضاً . كانت المأساة المذهبية وراء كتابة فولتير لرسالته في التسامح (1763)، و عذراً للفيلسوف الفرنسي أن أقرنه بمن جعل الكراهية شعاراً ، و داخل مؤسسة تشريعية في القرن الحادي و العشرين ، فقبل أكثر من مئتي عام قال فولتير في إشاعة التسامح ضد من جعل النزاعات الدِينية الماضية وقوداً في حروبه الحاضرة ، كاشفاً عن تخلف مأساوي : « من الحماقة بمكان أن نعمد اليوم إلى القضاء على جامعة السوربون بحجة أنها تقدمت في الماضي بعريضة طالبت فيها بحرق عذراء أوليان ، أو بحجة أنها أسقطت عن الملك هنري الثَّالث حقه في التربع على العرش ، و أنزلت به الحِرم الكنسي »(رسالة في التسامح). هذا ما يريده النائب ، حرق بغداد لأن زهوها العباسي ارتبط بالرشيد و المأمون ، أعرفتم الآن لماذا يُهمل شارع الرشيد و يُطالب باجتثاث الخليفتين ؟!