علي محمد فخرو
من مفارقات الزمن الردىء الذى يعيشه العالم الآن أن تطرح أوروبا على نفسها أسئلة تشكك فى كل ما نادت به فترة «الأنوار» الأوروبية من قيم و مسلمات ظنت أن نشرها سينقل البشرية من حالات التوحش و البدائية و التخلف إلى حالات التمدن و الرقى الحضارى . و إلا كيف نفسر موجة «النهايات» و «البعديات» التى اجتاحت الساحات الفكرية و السياسية و الاقتصادية الأوروبية بين عام 1990 – 2002 ، بدءا «بنهاية الإيديولوجيا» مرورا «بنهاية الجغرافيا» تتبعها «نهاية التاريخ» و «نهاية اليوتوبيا» انتقالا إلى «ما بعد الماركسية» و «ما بعد الرأسمالية» و انتهاء للإعلان عن نهاية الحداثة و الانتقال «لما بعد الحداثة»؟ كل عنوان من تلك العناوين الصاخبة المتحدية كان عنوانا لكتاب أو أكثر كتبه مفكر أو عالم مشهور غير متهور . كل كتاب أثار الكثير من الجدل و الضجيج إذ إنه يعلن بصورة مباشرة أو غير مباشرة تعثر أو إفلاس ذلك الشعار الأنوارى الحداثى أو ذاك . لم تصل تلك الموجة إلى نهايتها بعد ، إذ صدرت أخيرا كتابات كثيرة تنتقد بمرارة الصورة الجديدة للرأسمالية النيوليبرالية العولمية التى لا تعترف إلا بمتطلبات و قيم و قوانين السوق المتنافس الاستهلاكى النهم الذى يسلع و يسطح و يبيع و يشترى الفن و الثقافة بل و الإنسان . كما صدرت كتابات تنتقد بمرارة و خيبة أمل النواقص الكثيرة فى النظام الديمقراطى الليبرالى الغربى ، أى النظام الذى اعتبره الكثيرون الملاذ الأخير للإنسانية فى وجه الظلم و التسلط و الفساد و اللامساواة . فى هذه اللحظة فى فرنسا أحد أهم منابع نهر الأنوار الأوروبى المتدفق منذ ثلاثة قرون ، هناك نقاشات تعبر عن قلق عميق حول ما وصلت إليه موجات «الأنوار» و «الحداثة». بعضهم يقول بأن فرنسا و بالمثل أوروبا تعيشان نقيض عصر الأنوار : إذ تشابكت و اختلطت و اختفت الفروق بين تيارات اليسار السياسى مع اليمين السياسى ، و الشعارات الفاشستية مع الشعارات الديمقراطية ، و إذ تتصارع المساواة السياسية مع المساواة الاقتصادية و الاجتماعية فى حرب عبثية ، و إذ تترنح القيم الثورية الإنسانية التاريخية و تسود اللاعقلانية على كل محاولات العقلانية خصوصا بين الجماهير الهائمة على وجهها . ما الذى حدث ؟ الذى حدث هو أن الغرب تعايش مع حقارات الاستعمار , و مع شن حربين عالميتين فاجرتين ، و مع تدخلات عسكرية انتهازية فى طول و عرض المعمورة ، و مع تعايش أنانى مع كل نظام فاسد سلطوى مرتهن لنزواته ، و مع نظام سياسى و اقتصادى عولمى يفقر الفقراء و يدمر البيئة و الطبيعة و كل جمالات الحياة ، و مع إحلال الأنظمة و السلطات الاستخباراتية فى صدارة الحياة السياسية و الثقافية و الإعلامية ، و مع حكم البلدان من قبل الشركات الكبرى و مؤسسات المال ، و مع تهميش أدوار المفكرين و المثقفين . ترى لو أرجعنا البصر إلى الأرض العربية ألن نرى بوادر السير فى نفس طريق «النهايات» و «الما بعديات» لعقائد و شعارات و وقائع عملت الأمة العربية عبر القرون للوصول إليها و ظن العربى أنها أصبحت من المسلمات فى حياته ؟ الآن و العديد من الأقطار العربية فى طريقها نحو التجزئة و التفتت بسبب الصراعات المجنونة المفجعة بين مكوناتها و الاستباحة التامة لها من قبل قوى الخارج المتآمرة على وحدتها القومية و نهوضها .... الآن و العديد من الأقطار العربية الأخرى تتهيأ و تهيئ للدخول فى نفس النفق المظلم ، هل سنرى البعض يعلن نهاية الدولة الوطنية العربية بعد أن أعلن البعض سابقا نهاية شعار الدولة القومية العربية الموحدة ؟ هل سندخل عصر النقاش حول طبيعة «ما بعد الدولة الوطنية القطرية» ؟ و هل ستكون مبنية على أسس قبلية أم أسس مذهبية طائفية أم أسس عرقية لغوية ؟ الآن و الجنون التكفيرى الجهادى الإسلامى العنفى البربرى يجتاح طول و عرض بلاد العرب و بلدان المسلمين ، هل سنتكلم عن «نهاية الإسلام المحمدى» إسلام العقيدة الواحدة القائمة على أسس الحق و العدالة و القسط و التسامح و التراحم و حرية الإنسان فى عقيدته و إيمانه و الاعتراف بأديان الآخرين ؟ هل سنعلن مجىء رسالات «ما بعد الرسالة المحمدية» على يد معتوهين و لكن بأتباع و مناصرين كثيرين يطرحون أنفسهم لا كخلفاء سياسيين و إنما كخلفاء دينيين أيضا ، لهم الحق و واجب الطاعة فى أن يقرأوا القرآن و يفهموا أقوال نبى الإسلام بصور لا تقرها عدالة السماء و لا عدالة الأرض ؟ هل سنتكلم عن إسلام ما قبل «القاعدة» و فراخها و ما بعدها ؟ هل سنتكلم عن نهاية شعارات الوحدة و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و التنمية الإنسانية و التجدد الثقافى التى استنفذت طاقات أجيال من الإصلاحيين و المفكرين و القادة المناضلين لتحل محلها شعارات متخلفة ظالمة متسلطة من مثل سبى النساء ، و ذبح أصحاب الديانات السماوية الأخرى ، و إنهاء كل مظاهر الثقافة و الفنون الرفيعة ، و خنق الحريات الفكرية و السياسية ، و إيقاف الانتقال إلى الديمقراطية ، و رفض كل منجزات العصر الفكرية و العلمية و الإبداعية ، و إيقاف التاريخ لإرجاعه إلى الوراء عشرات القرون ، و الدخول فى معارك صبيانية مع كل الأمم ، بل و الوصول إلى الادعاء بمعرفة الطريق الأوحد إلى دخول جنة الله سبحانه و تعالى ؟ هل نحن نتخيل أشياء لن تحدث بطرح أسئلة غير واقعية ؟ أبدا ، إذ من كان يصدق أن ثلاثة قرون من «الأنوار» الأوروبية ستنتهى بأن يصرح أحد الكتاب الفرنسيين بأن حضارتهم (الأوروبية) تتبدد و تنهار و إنها فى نهاية السباق لأنها لا تنتج شيئا ؟ ثم يصرخ : المركب يغرق و لا فائدة من وضع الإطارات المطاطية . إنها تصوير قاتم و لكن أليست الحالة العربية الآن أكثر قتامة و أشد بؤسا ؟