جورج طرابيشي
و أنا في رحلة نهاية عمر و بعد عقود ستة من صحبة القلم الذي آثرته – عدا زوجتي و بناتي – على كل صحبة أخرى ، أجدني أتوقف أو أعود إلى التوقف عند ست محطات في حياتي كان لها دور حاسم في أن أكتب كل ما كتبته و في تحديد الاتجاه الذي كتبت فيه ما كتبته و حتى ما ترجمته . المحطة الأولى : ولدت من أسرة مسيحية و تدينت تديناً مفرطاً فــي الطور الأول من مراهقتي و كنت أؤدي كل واجباتي الدينية بحساسية تثير حتى سخرية أخي الأصغر مني . ذات يوم في المدرسة ، و في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية – و كنت صرت في نحو الرابعة عشرة من العمر - كان من جملة دروسنا درس التعليم الديني الذي كان يتولاه كاهن معروفة عنه صرامة الطبع . و كنا في تلك المرحلة قد تكونت لدينا فكرة واضحة بما فيه الكفاية عن خريطة الكون و كروية الأرض و دورانها و حجمها . و في أحد دروس التعليم الديني قال لنا المدرس الكاهن :” تعرفــون أنتم يا أولادي الآن ما هــــــي الكرة الأرضية و تعرفون حجمها , أريدكم الآن أن تتصوروا كرة أرض أكبر من أرضكم بمليون مرة ، و أن هذه الكرة الأكبر بمليون مرة من كرة الأرض ليست من تراب و ماء بل هــي من حديد فولاذي صلب . هذه الكرة الأكبر من الأرض بمليـــون مرة و الأصلب من الحديد الصلب يمر عليها كل مليون سنة طائر فيمسحها بجناحه . فكم و كم – و هذه الكلمة لا زالت ترن في أذني إلى اليوم - كم مليون .. مليون .. مليون سنة يحتاج هذا الطائر إلـى أن يمسح بجناحه مرة واحدة كل مليون سنة ليذيب هذه الكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة ؟ تذوب هذه الكرة و لا يذوب عذابكم في جهنم إذا متم في حال الخطيئة”. سمعت هذا التحذير الحسابي فأصابتني رعدة – فقد فهمته بكل أبعاده إذ كنت في حينه تلميذاً متفوقاً – و خرجت مـن المدرسة و سرت في الطريق و أنا أطأطئ رأسي ذلك أن المدرسة كانت تقع في حي عتيق جدا و كئيب تفوح منه روائح الأماكن المغلقة . و على بعد حوالي 200 متر كنا نخرج من الدرب الضيق و المقفل عليه ليلاً بباب حديدي الى شارع عريض و مفتوح تطالعنا منه أول ما تطالعنا بناية حديثة نسبياً تقطن في الطابق الثاني منها أسرة إيطالية لها ثلاث بنات جميلات جدّاً ، و غالباً ما نجدهن جالسات في “الفيرندا” و مرئيات للناظر من الشارع في إطلالة آسرة . و ما إن نظرت إليهن عصرئذ حتى أسرعت أخفض نظري و أغمض عيني , لماذا ؟ هنا لا بد أن أعود الى المسيحية التي ولدت فيها و عمدني أهلي عليها , ففي المسيحية يقال إن الخطيئة مثلثة : خطيئة بالعمل و خطيئة بالقول و خطيئة بالفكر . و حتى هذه الخطيئة الأخيرة قد تكون خطيئة مميتة و عقابها جهنم إلى أبد الآبدين حسب اللاهوت المسيحي إذا كان مدارها على الجنس نظراً الى الوصية التي تقول : لا تشته امرأة غيرك و الحال أن كل امرأة هي امرأة للغير ما لم تكن زوجة شرعية . و من ثم إن الشهوة الجنسية تغدو بحد ذاتها مسببة لخطيئة مميتة و لا يغفرها الله للإنسان و لا ينجيه من عذابات جهنم ما لم يعترف بها للكاهن . و كان الكاهن يركز على خطيئة الفكر هذه في درس التعليم الديني لعلمه أن مدار تفكير الصبيان في طور المراهقة هو على الجنس . و على هذ النحو توزعت نفسي و أنا أخرج من درب المدرسة الضيق الى الشارع المفتوح على فيراندا الصبايا الإيطاليات الثلاث بين الرغبة في النظر و بين الخوف من العذاب الأبدي في نار جهنم على ذلك النحو المرعب كما صوره لنا الكاهن من خلال مثال الطائر و الكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة . و هكذا لم أكتف بإغماض عيني بل رحت أمشي في الطريق إلى البيت و أنا أحاول أن أطرد من فكري صورة الإيطاليات الثلاث و كلي خوف من أن تشاء المصادفة أن يسقط فوق رأسي من إحدى الشرفات أصيص زهر من الأصص التي كان من عادة سكان بلدتي حلب أن يزينوا بها شرفاتهم فأموت و أنا في حالة خطيئة مميتة . و وصلت إلـــى البيت و أنا في شبه هذيان و أصابتني حمى حقيقيـــة و بقيت يومـــين طريح الفراش ، ثم لما أفقت كان رد فعلي الوحيد أنني قلت بيني و بين نفسي : لا ، إن الله ذاك الذي حدثنـي عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد و لا يمكن أن يكون ظالماً إلى هذا الحد , و من ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحيا . المحطة الثانية التي حددت اتجاهي النهائي في الحياة عدا قصة خروجي من المسيحية كانت عند انتقالي في المرحلة الثانوية إلى مدرسة رسمية تابعة للدولة . كان ذلك علـى ما أذكر عام 1955 و قد كان ذلك بعد سقوط حاكم سورية الديكتاتور و الجنرال العسكري أديب الشيشكلي . و كان تحالف حزب البعث و الحزب الشيوعي و الإخوان المسلمين هو من أسقطه , فلما تفاوضوا فيما بينهم سئل الإخوان المسلمون : ماذا تريدون ؟ أي وزارة ؟ فقالوا : نحن لا نريد وزارة ، نحن لنا مطلب واحد و هو إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثانوية . التعليم الديني كان مباحاً بل واجباً في المدارس الابتدائية و الإعدادية و لكن ليس في الثانوية , في الثانوية كنا ندرس علوم الأخلاق و التربية الوطنية و ليس هناك تعليم ديني . و على هذا النحو تقرر إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثانوية و أنا ذهبت في تلك السنة إلى المدرسة الثانوية . و يومئذ لما قيل لي هناك حصة تدريس تعليم دينــــي قلت لرفاقي و كنت قد بدأت أميل إلــــى أن أصير حزبياً اشتراكياً من “حزب البعث” : أريد أن أحضر درس التعليم الديني لأني أريد أن أطّلع أكثر ، فأنا كنت في مدرسة لم أتلق فيها سوى التعليم المسيحي و لكني أريد الآن أن أعلم المزيد عن الاسلام الذي هو دين الغالبية السورية . حضرت الدرس , شيخ طويـــل القامة بعمة أذكر إلى الآن لون جلبابه الرمادي الأنيق . و كان قد كتب علـى اللوح بالطبشور سلفاً : “كل من هو ليس بمسلم فهو عدو للإسلام” كان هذا موضوع الدرس . و بدأ يشرح و يشرح و رفـــاقي ينظرون إلي كل واحد منهم رمقاً ليدركوا رد فعلي . و مضى نصف وقت الحصة و أنا أسمع الدرس ثم قـــال الشيخ المدرٍس : الآن أفتح باب النقاش فسارعت أرفع يدي ، فقال : تفضل ، ما اسمك ؟ فقلت و أنا أشدد على اسمي : “جورج طرابيشي” و جورج اسم لا يطلق في سوريا إلا على المسيحيين . فوجئ هذا الشيخ و انبثقت حبات عرق على جبينه و تابعت قائلاً : يــــا أستاذ ، أنا لست مسلماً ، أنا مسيحي بالمولد فهل أنا عدو لك ؟ قال : أعوذ بالله ، من قال هذا الكلام ؟ كيف تقول ذلك ؟ قلت له : يــا أستاذ منذ أكثر من ثلاثين دقيقة و أنت تقول : كل من ليس بمسلم فهو عدو للإسلام ، فهل أنـا عدو لك ؟ فطفق الرجل يتدارك خطأه و يقول : لا ، لا ، فالمسيحيون أهل كتاب . و طبعاً كان السؤال الذي دار في نفسي : لماذا لم يتدارك و يستثن من البداية ؟ و حتى لو لم أسأله فهل يكون كل من هو ليس بمسلم عدواً للإسلام ؟ و قد كان ينبغي علي أن أضيف السؤال :حتى و إن لم أكن من أهل الكتاب فهل أنا عدو لك ؟ و لكني أمسكت . ابتداء من تلك اللحظة وعيت أن مهمة كبيرة جدّاً لا تزال تنتظرنا في مجتمعاتنا و أن القضية ليست قضية تغيير سياسة و لا وزارة ، بل هي أولاً و ربما أخيراً قضية تغيير على صعيد العقليات . و شاءت الصدفة فيما بعد لما صرت أُدرِس في الثانوية بدوري و يوم افتتاح الموسم الدراسي أن أفاجأ بوجود نفس الشيخ في قاعة الأساتذة ليكون مدرس التعليم الديني أيضاً في نفس الثانوية الّتي عينت فيها مدرساً للغة العربية . قام عن كرسيه للحال و هجم نحوي و عانقني قائلاً : عذراً يـا أستاذ ، خطيئة ارتكبتها في حياتي لن أكررها أبداً . المحطة الثــالثة في حياتي تمثلت بحادثة مماثلة و لكن هذه المرة مع رفاق حزبيين مسيحيين . كانت حادثة لها عمق تغييري كبير في نفسي و في وعيي إذ كانت سبباً أساسياً في تحولي إلى كاتب لأني شعرت أن الكتابة هي الطريق الوحيدة الّتي بمستطاعي أن أسلكها لكي أغير العقلية في المجتمع . و التفاصيل كما يلي : دخلت السجن كمعارض سياسي في نظام حزب البعث , كنت انتميت الى حزب البعث قبل استلامه السلطة ثم استقلت من الحزب بعد سنة من استلامه الحكم لخلافات سياسية و إيديولوجية ليس المجال هنا للدخول في تفاصيلها . و بعد أن استقلت و صرت معارضاً دخلت السجن . في السجن كان هناك عدد من البعثيين المعتقلين و إن كانوا ينتمون الى تيار يميني غير التيار الحاكم و غير التيار اليساري الذي أنتمي إليه أنا بعد أن تشتت الحزب إلى تكتلات ، و كان معظم هؤلاء من جبل حوران في سوريا الذي كان قسم كبير من سكانه من المسيحيين من أيام الغساسنة و من ورثتهم . و في السجن كان معي خمسة أو ستة من هؤلاء المسيحيين البعثيين في غرفة جماعية واحدة تضم عشرات المعتقلين . كنت قد تزوجت من زوجتي الكاتبة”هنرييت عــبودي” و أنجبت منها أول طفلة عمرها سنة أو سنتان ، لم أعد أذكر . و كنت و أنا بالسجن لا أفكر إلاّ بهذه الزوجة و بهذه البنت التي تركتها معها . و لست أدري كيف جاء حديث الشرف الجنسي الذي يقضي بوجوب قتل المرأة إذا أقامت علاقة جنسية غير مشروعة سواء كانت مسيحية أو مسلمة و في هذه الحال تقتل ، و الأفضل أن تذبح ذبحاً من قبل أخيها استرداداً للشرف المهان . و من كلمة إلى كلمة قادنا النقاش الى ما يلي , قلت لهم : أنــــــــا أرفض مبدأ جريمة الشرف من أساسه ، و هذا موقف لا أستطيع احتماله إطلاقاً من قبل إنسان يزعم نفسه تقدمياً أو اشتراكياً أو بعثياً . عندئذ هب واحد منهم غاضباً و قال : أنت متزوج ؟ قلت : نعم , قال : شوعندك ؟ قلت له : عندي بنت , قال : صغيرة طبعاً ؟ قلت : نعم , قال : الآن إذا كبرت – بنتي اسمها مايا - إذا كبرت هذه البنية و غلطت مع شاب أفلا تذبحها ؟ قلت له : أنا أذبح مايا بنتي إذا رأيتها تقبل شابّاً ! فقـــــــــــــال : كيف ؟ أما تذبحها ؟ قلت له : يا رفيق أجننت !! أذبح مايا ؟ قال : أنت ما عندك شرف ! أنت لست عربياً و لا تستأهل أن تكون عربياً و لا بعثياً ! و أخذ هؤلاء الرفاق المعتقلون معي قراراً بمقاطعتي و بعدم الكلام معي لأنــي لا أستحق شرف أن أكون عربيـاً أو بعثياً و لو كنت معارضاً مثلهم للتيار الحاكم . و نتيجة لهذه المقاطعة و لما تلاها من عدائية نحوي قدمت طلباً إلى ادارة السجن بنقلي إلـى غرفة منفردة ، أي شبه زنزانة بدلاً من أن أبقى مع رفاق يقاطعونني و يحتقرونني . من يومها أيضاً تعلمت درساً جديداً و هو أن القضية ليست فقط قضية مسلمين و غير مسلمين ، و مسيحيين و غير مسيحيين ، من حيث الوعي الاجتماعي حتى و لو كانوا ينتمون إلى أيديولوجيا واحدة فالقضية أعمق من ذلك بكثير . قضية بنى عقلية في المقام الأول , ففي داخل المخ البشري تتواجد طبقتان : طبقة فوقية سطحية يمكن أن تكون سياسية ، تقدمية ، اشتراكية ، وحدوية ، و طبقة بنيوية تحتية داخل هذا المخ رجعية حتى الموت ، سواء كان حاملها مسيحيـاً أو مسلمــاً . و منذ ذلك اليوم توطد لدي الاقتناع بأن الموقف من المرأة في مجتمعاتنا يحدد الموقف من العالم بأسره . و منذ ذلك اليوم أيضا ترسخ لدي الاقتناع أكثر من أي يوم سبق بوجوب النضال بواسطة الكلمة من أجل تغيير العقليــات ، تغيير البنية الداخلية للعقل ، و ليس فقط البنية السطحية السياسية أو الايديولوجية . في المحطة الـــــــرابعة من حياتــــــــــــي و بعد مرحلة القوميـة العربية و البعثية و اليسـارية و الماركسية ، جاء دور فرويد . و قصتي مع فرويد بدأت بواقعة لا تخلو من طرافة , فبعد أن تزوجت و صار عندي بنتان كنت كلما جلست إلى المائدة لآكل الطعام أمسك برغيف الخبز - عندنا فـــي سوريا الخبز العربـي و هو غير دارج في معظم البلدان العربية الأخرى - فلا أجد نفسي إلا و أنا أقطعه من أطرافه لاشعورياً و زوجتي و ابنتي قاعدتان أمامـــي على المائدة تأكلان ، و كنت لا أستطيع منع نفسي من تفتيت الخبز حتى عندما يكون معنا على المائدة ضيف . كانت زوجتي تقول لي بلهجتها الحلبية : عيب يــا جورج ، الناس بشوفوك ، و بناتك يتعلموا هالعادة ، و حتى عندما يكون عندنا ضيوف علــى المائدة يرونك تفتت الخبز قدامهم هكذا ! و كنت أقول لها : معك حق و لكن كل مرة أنسى نفسي و أعود إلى تمزيق الرغيف بدون قصد و لا انتباه مني . و هكذا إلـى أن صادف ذات مرة أن قرأت مقالاً - لا أعتقد أنه كان لفرويد و إنما لأحد تلاميذه – يحكي عن هذه الظاهرة النفسية و يعتبرها عرضاً عصابياً بصفتها فعل تمزيق لا إرادي و لاشعوري للأب . و أنا عندما قرأت هذا المقال أصبت برجفة : فأنا إذن أمزق أبي ؟ و بالفعل كنت على صدام في مراهقتي مع أبي . و منذ أن قرأت ذلك المقال انفتحت على التحليل النفسي و عكفت على قراءة فرويد ثم شرعت أترجم له . و وجدتني أتصالح مع أبي – و كانت قد مضت سنوات على وفاته – و أصفي حسابي مع نفسي تجاه أبي و أستعيد نسبة كبيرة من الهدوء النفسي و أنظر إلى الحياة نظرة جديدة إلى حد ما . و لقد ترجمت لفرويد نحواً من ثلاثين كتاباً و لكني بطبيعة الحال لم أترجمها عن لغتها الأصلية الألمانية بل عن اللغة الفرنسية . و أنتم تعلمون المثل الايطـــــــــــــــالي الذي يقــول : المترجم خائن Traduttore, traditore . و أنا إذ كنت أترجم عن لغة عن لغة فهي خيانة مزدوجة و لكن كان هذا خيارأً لا بد منه لأنه لا يوجد في الثقافة العربية التي تهيمن عليها نتيجة الاستعمار السابق اللغتان الفرنسية و الإنجليزية من يتقن الترجمة عن الألمانية سوى قلة قليلة للغاية . و لو لم أترجم فرويد أو لم يترجمه غيري سواء عن الفرنسية أو الإنكليزية لبقيت الثقافة العربية بدون فرويد و بدون تحليل نفسي و هذا شيء غير مقبول . و طبعاً أنا خنت خيـــانة مزدوجة بالترجمة عن لغة عن لغة و لكن أعتقد أني أديت للثقافة العربية خدمة ضرورية . و أنا منصرف اليوم و منذ عام تقريباً إلى إعادة النظر في ترجماتي الفرويــدية مستفيداً من صدور ترجمات جديدة لفرويد باللغة الفرنسية – ترجمتـــين أو ثلاث للكتاب الواحد – استعداداً لإعادة طبعها منقحة و أكثر مطابقة للنص الأصلي متمنياً أن يأتي ذات يوم يكون عندنا مترجمون يترجمون عن الألمانية مباشرة . في المحطة الخامسة من حياتي سأتوقف عند عن علاقتي بـالراحل محمد عابد الجابري الذي كرست له ربع قرن من عمري . كنت منذ عام 1972 قد انتقلت إلى بيروت لأتولى رئاسة تحرير مجلة “دراسات عربية” الشهرية التي كانت تصدر في لبنان عن دار الطليعة . و كان الجابري قد بدأ يرسل إلي في مطلع الثمانينات بعض المقالات لنشرها في المجلة ثم أرسل كتاباً إلى دار الطليعة عنوانه “تكوين العقل العربــي“ الجزء الأول من مشروع “نقد العقل العربـــي“. و قد أعطاني صاحب الدار الراحل بشير الداعوق المخطوط قائلاً لي : أنظر في هذا الكتاب فأنت أفهم مني في التراث . قرأت الكتاب و قلت له : هذا كتاب مدهش أُنشره فوراً , نشره طبعاً و لكني في أثناء ذلك كنت أخذت قراري - و قد تعبت من الحرب الأهلية اللبنانية – بالهجرة من بيروت إلـــى بـاريس للعمل في مجلة “الوحدة “. و أنا أودع الدار و أودع زملائي و أودع بشير الداعوق كان صدر كتاب ” تكوين العقل العربي“ و كان هو الكتاب الوحيد الذي حملته معي من بيروت إلى باريس مع معجم سهيل إدريس “المنهل“. لم أحمل من كتب مكتبتي الخمسة الاف غير هذين الكتابين .جئت باريس و قعدت في بيتي شبه الفارغ أقرأ هذا الكتاب مرة ثانية مسحوراً به سحراً كاملاً . و كان أول مقال كتبته في مجلة “الوحــدة” عن هذا الكتاب . و بادرت أكتب بالحرف الواحد - يعرف هذه القصة عدد ممن قرؤوا سيرة حياتـي - : “إن هذا الكتاب ليس فقط يثقف بل يغير ، فمن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”. بمثل هذه الحماسة كتبت عرضاً عن الكتاب في مجلة “الوحدة“ و لكن كانت هناك نقطة تفصيلية صغيرة في الكتاب أثارت عندي بعض الشكوك و تتعلق بموقف الجابري من “إخوان الصفاء”. فمن دراستي الجامعية في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق كانت تكونت عندي فكرة عامة عن انتماء إخوان الصفاء إلى العقلانية الفلسفية الإسلامية , و الحال أن الجابري كان قال كلاماً سلبياً للغاية عن إخوان الصفـــــاء ناسباً إياهم الى ” العقل المستقيل في الإسلام” و مؤكداً أنهم وقفوا ضد العقل ، و ضد الفلسفة ، و ضد المنطق ، و ضد صاحب المنطق الذي هو أرسطو . هكذا ارتسم عندي شك يتعلق بهذه النقطة تحديداً و ما كان في إمكاني أن أحسمه لأن رسائل اخوان الصفاء لم تكن متوفرة لي في مهجري الباريسي . ثم شاءت الظروف أن أسافر إلى إحدى دول الخليج في دعوة لندوة . في ذلك البلد الخليجي قلت في نفسي إني سأبتاع رسائــــــل إخوان الصفاء لحسم تلك المسألة . ذهبت إلى مكتبة كبيرة هناك و سألت المستخدم : عندك كتاب “إ رسائل خوان الصفاء“؟ فقال بلهجة لا تخلو من غرابة : لا يا أستاذ , قلت له : و أين يمكنني الحصول عليه ؟ قال : أستاذ ، أنت تعرف أن هذا الكتاب هو في الفلسفة ؟ قلت له : نعم , قال : إن كتب الفلسفة ممنوعـــة هنا . و كانت هذه أول مرة أسمع فيها أن كتب الفلسفة محرمة ، و فيمـا بعد اكتشفت أنها ليست ممنوعة فقط في تلك الدولة الخليجية بل في معظم دول الخليج . قلت لـلمكتبي : آسف ، أنا و الله ما كنت أدري . و من كلمة إلى كلمة بدأت أتناقش معه ودياً و قلت له : أنا لازمني الكتاب فماذا أفعل ؟ قال : هناك مكتبة أخرى و دلّني على اسمها و عنوانها و قال : عل و عسى يكون لديها . ذهبت الى المكتبة الثــــانية و سألت المكتبي عن الكتــــاب و بالطبع أتاني نفس الجواب ، فقلت له : و لكن اسمح لي أعرفك بنفسي : أنا كاتب و مترجم اسمي “جورج طرابيشي” . و بمجرد أن قلت له جـــــورج طرابيشي ، قال : أهلاً و سهلا ً و راح يعرفني على ما هو موجود من كتبي و ترجمـاتي لديه , ثم أضاف : اسمح لي , و دخل و استدعى رئيسه صاحب المكتبة ، فقال هذا : أهلاً و سهلاً أستاذ جـــورج و رحب بي إلخ . رويت له حاجتي الى الكتاب لأنه غير متوفر لي بباريس و لا أستطيع أن اتي به من لبنان بسبب ظروف الحرب الأهلية ، إلخ . قال : و الله يا أستاذ أما تعرف أن هذه الكتب ممنوعة ؟ قلت له : عرفت و لكن لعل و عسى تســـــاعدني , قــال : تفضل معي , نزل معي إلى قبو تحت الأرض فـــإذا فيه صناديق و كتب أخرى ، و أخرج أربعة أجزاء كبيرة لإخوان الصفاء ، قال : تفضل أستاذ و لم يشأ أن يأخذ ثمنها و لكني أصررت ودفعت شاكراً إياه كل الشكر . و أنا في طائرة العودة ثم في البيت كان أول همي أن أعثر عــلى النص الّذي يقول عنه الجابري إن إخوان الصفاء يقفون فيه ضد المنطق و ضد أرسطو و ضد الفلسفة . فتحت الجزء الرابع من الرسائل أفتش عن النص كما يشير اليه الهامش الذي يحيل اليه كتاب “نقد العقل العربي” فلـــــم أجده ، فتشت و فتشت ثم قلت في نفسي : لعله خطأ مطبعي و يجب ان أعيد قراءة الرسائل الواحدة و الخمسين كلها . و هكذا بدأت بقراءة كتاب رسائل إخوان الصفا بأجزائه الأربعة فإذا بي أصل إلـــــى الرسائل 10-11-12-13-14 فكانت دهشتي عظيمة . ففي هذه الرسائل الخمس و بعدما قدموا و عرفوا بأنفسهم يقولون ما خلاصته : يـــا أخي أيدك الله و إيانا بروح منه ، اعلم بعدما شرحنا لك أهدافنا أنه لا مدخل لك إلينا إلا بواسطة المنطـــق لأنه هو المعبر الذي يجعل الخطاب بيننا ممكنا , فتعال نشرح لك المنطق و كتبه . ثم يخصصون الرسائل 10 إلى14 لشرح كتب المنطق الأرسطي مثل العبارة و المقولات و القياس و البرهان ، و يستعملون العبارات بلفظها اليوناني مثل أنالوطيقا و قاطيغورياس ، إلخ . فيما أنا أطالع هذه الرسائل الخمس في الشرح المفصل للمنطق الأرسطي كنت أتساءل بيني و بين نفسي : كيف يقول الجابري إن إخوان الصفا قاطعوا أرسطو ؟ و قاطعوا المنطق ؟ و قالوا : إن الإنسان ليس بحاجة إلى المنطق و إلى الفلسفة ؟ و عدت من جديد إلى متابعة قراءة الرسائل إلى أن وقعت في الرسالة السابعة عشرة المعنونة : في علل اختلاف اللغات على النص الذي يتخذ منه الجابري دليلاً علن أن إخوان الصفاء قالوا إن الإنسان ليس بحاجة الى المنطق . و الحال ماذا يقول النص ؟ فحواه كالتالي : لقد تقدم بنا الكلام في أوائل رسائلنا على أهمية المنطق لفهمنا و فهم لرسائلنا و لكن اعلم يا أخانا أن المنطق منطقان . هناك منطق فلسفي حدثناك عنه ، و هناك منطق لفظي أي الكلام ، لأنّه لولا الكلام لما تفاهم البشر فيما بينهم . و بعد أن يشــرحوا دور اللغة كأساس و كوسيلة للتفــاهم بين البشر يضيفون : اعلـــم أن هناك نفوساً صــافية غير محتاجة للكلام و لا للمنطق في إفهام بعضها بعضاً ، أي هناك نفــوس روحانية تتفاهم بالعين ، تتفاهم باللمس ، تتفــاهم بالروح ، بالوجدان ، بالتخاطر كما بتنا نقول اليوم ، بدون أن تكون بها حاجة للمنطق اللفظي و الكلام . فإذا بالجــــابري استغل هذه الجملة ” ليست بحاجة إلـى منطق” ليحذف كلمة اللفظي و ليقول إن هؤلاء ضد المنطق بمعناه الفلسفي . ثم لم ألبث أن وقعت علــى الشاهد التالي و هو في معرض نقاش إخوان الصفاء حول ما بين الدين و الفلسفة من علاقة يريد المتزمتون في عصرهم ( القرن الرابع للهجرة) فصمها و يدعون إلى تحريم الفلسفة باسم الدين . يقول الشاهد بالحرف الواحد : “اعلم أيهــــا الأخ البــار ، أيدك الله بنور منه ، أن من عرف أحكام الدين فإن نظره في علم الفلسفة لا يضره بل يزيده فـــي علم الدين تحققاً و في فهم المعاني استبصاراً”. ثم يضيف القول : “المنطق ميزان الفلسفة و أداة الفيلسوف . و لما كـانت الفلسفة أشرف الصنائع على البشرية بعد النبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح المــــوازين و أداة الفيلسوف أشرف الأدوات و نسبة صناعة المنطق إلى العقل و المعقولات مثل صناعة النحو إلى اللسان و الألفاظ”. إني لما قرأت هذه الرسالة و هذا الشاهد أصبت بصدمة كبــيرة و بطعنة في كبريائي كمثقف لأنّي كتبت في ما كتبت عن كتاب الجـابري : ” هذا الكتاب من يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”. و من ذلك اليوم لم أعد أوجه لومــــــي إلى الجــــــابري بل إلى نفسي لأنّني حكمت على كتاب في موضوع لم أكن أملك كل مفاتيحه المعرفية . و أقسمت بينـــي و بين نفســــي أني بعد الآن لن أقول شيئاً أو أصدر حكماً بدون أن أكون مستوثقاً من كل المعلومات بصدده . و هكذا أخذت قراري بإعادة تربية نفسي و إعادة تثقيف نفسي . و هكذا انكببت أنا الذي درست اللغة العربية و التراث العربي جزئياً في الجامعة انكباباً مرعباً علــى قراءة كتب التراث و علــــى مطالعة عشرات و عشرات المراجع التي ذكرها الجــــابري و التــي رحت أدقق كل شاهد من شواهدها و أتحقق من صحتها فــــي كل المجالات . و بصراحة أقول لكم : لم يكن شاهد إخوان الصفاء بالشاهد الوحيد ، بل وقعت على عشــرات و عشرات من الأمثلة علـــى مثل هذا التزوير الذي أوقع فيه الجابري عن قصد أو عن غير قصد - لا أدري - قراءه و أنا منهم . و إني لأقولها صراحة اليوم : إني أعترف للجــابري الذي قضيت معه ربع قرن بكامله و أنا أقرأه و أقرأ مراجعه و مئات المراجع في التراث الإسلامي و من قبله المسيحي و من قبلهما التراث اليوناني و كل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه ، إني أقر له و أعترف أمامكم أنه أفادني إفادة كبيرة ، و أنه أرغمني علـــى إعادة بناء ثقــافتي التراثية . فأنـــا له أدين بالكثير رغم كل النقد الذي وجهته إليه . المحطة السادسة , إن المحطات الخمس التي تقدم بي الكلام عنها كانت كلها بمثابة محطات انطلاق ، و بدءاً منها كتبت كل ما كتبته على امتداد حياتي من أبحاث و مقالات قاربت في عددها الخمسمائة ، و مؤلفات نافت على الثلاثين ، و ترجمات زادت على المئة . لكن المحطة السادسة كانت بالمقابل هي محطة التوقف و الصمت و الشلل التام عن الكتابة : محطة الألم السوري المتواصل منذ نحو أربع سنوات بدون أن يلوح في الأفق أي بشير بنهاية له . على امتداد تلك السنوات الأربع ما أسعفني القلم إلا في كتابة مقالين اثنين فقط : أولهما في 21/3/2011 بالتواقت مع البدايات الأولى لثورات الربيع العربي في تونس و مصر و ليبيا ، و ثانيهما في 28/5/2011 مع انخراط سورية بدورها في معمعة ذلك الربيع . المقال الأول حمل هذا العنوان : تاريخ صغير على هامش التاريخ الكبير , و قد قصدت بالتاريخ الكبير ثورات الربيع العربي التي بدت في حينه و كأنها تدخل العالم العربي في عصر الثورات التاريخية الكبرى كمثل تلك التي شهدتها فرنسا عام 1779 أو أوروبا الغربية عام 1848 أو دول المعسكر المسمى بالاشتراكي في أواخر القرن العشرين . أما التاريخ الصغير فقد قصدت به تاريخي الشخصي المرتبط بخيبة أمل كبرى , فأنا كما وصفت نفسي في خاتمة ذلك المقال الأول عن ثورات الربيع العربي ابن الخيبة بالثورة الإيرانية الآفلة أكثر مني ابن الأمل بثورات الربيع العربي الشارقة التي قلت في نهاية المقال إنني إذا كنت أتمنى من شيء فهو أن يكون توجسي في غير محله ، و أن يكون مال هذه الثورات العربية غير مال الثورة الإيرانية التي صادرتها القوى الناشطة تحت لواء الإيديولوجيا الدينية ، و أن تكون فرحتي بذلك الربيع هي الرفيق الدائم لما تبقى لي من العمر . و لكن و كما أثبت التطور اللاحق للأحداث فإن ما قام البرهان على أنه كان في محله هو توجسي بالذات : فالربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم و الردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة و الغرق من جديد في مستنقع القرون الوسطى الصليبية / الهلالية . أما المقال الثاني الذي كتبته في أواخر شهر أيار/مايو 2011 فكان بعنوان : سورية : النظام من الإصلاح إلى الإلغاء , و قد كان محوره على أن سورية المتعددة الأديان و الطوائف و الإثنيات تقف بدورها على أبواب جحيم الحرب الأهلية ما لم يبادر النظام إلى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه . فغير هذا الإلغاء لا سبيل آخر إلى إصلاح سلمي يصون البلاد من الدمار . و لكن بدلاً من ذلك امتنع النظام حتى عن الوفاء بالوعود في الإصلاح التي كان لوح بها . و لكن لأعترف أيضاً بأن إصراري يومئذ على قدر من التفاؤل من خلال مطالبة النظام بإلغاء نفسه تفادياً لحرب أهلية طائفية مدمرة كان في غير محله إذ ما كنت أعي في حينه أي في الأسابيع الأولى لاندلاع الانتفاضة السورية ، دور العامل الخارجي إعلاماً و تمويلاً و تسليحاً ، و هو الدور الذي يدفع اليوم الشعب السوري بجميع طوائفه ثمنه دماً و موتاً و دماراً غير مسبوق إلا هولاكياً ، و هذا في ظروف إقليمية و أممية تشهد احتداماً في الصراع الطائفي السني/ الشيعي ينذر بأن يكون تكراراً للصراع الطائفي الكاثوليكي / البروتستانتي البالغ الشراسة الذي كانت شهدته أوروبا في القرنين السادس عشر و السابع عشر . يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة ، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب هو بمثابة موت و لكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن .
تعليق : مقال تنويري و تثقيفي بدرجة امتياز انصح بقراءاته بشدة .