مصطفى أحمد النعمان
عندما أعلن الرئيس عبد ربه منصور هادي في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي انتهاء لقاءات «مؤتمر الحوار الوطني الشامل» تعلقت آمال الكثيرين داخل اليمن و كذا الدول المعنية باستقرار الأوضاع الداخلية فيه ، حتى يتفرغ الجميع للحفاظ على ما تبقى من هياكل الدولة التي دمرتها سنوات الربيع كما حدث في غير قطر عربي ، لكن سرعان ما تبخرت الأوهام و عادت الحروب شبه اليومية إلى كل مناطق اليمن ، بدءا من انعدام المشتقات النفطية على مدى أشهر و انقطاعات الكهرباء لأيام و معارك في شمال العاصمة (الاتحادية) يثبت فيها الحوثيون خطوط إقليمهم كما يبتغون بعيدا عما رسمه جمال بنعمر و أقرته قسرا لجنة تنصلت بعض الأحزاب من توقيع ممثليها على وثيقتها ، ثم معارك تجري في جنوب شرقي البلاد يسعى معها الجهاديون لبسط سيطرتهم بعيدا عن أعين الأجهزة المعنية .. و تجري كل هذه المعارك تحت الشعار الجميل الذي كان يزين جدران منتجع «الموفنبيك» الجميل «اليمن الجديد». انفض سامر المنتجع و بدأ السراب يتلاشى من أذهان اليمنيين و اليأس يملأ المواطن العادي ، و تبدت الحقائق كما جسدتها معاناتهم اليومية في وقت لم تكن الأحزاب اليمنية معنية بما يرغب فيه المواطنون و لم تكُ يوما معبرة عن همومهم و تطلعاتهم ، بل إن شغلها الشاغل لم يتعدَ الحفاظ على مواقعها التي انتزعتها بموجب المبادرة الخليجية و آليتها التنفيذية ، و اعتبرت ما حصلت عليه استحقاقا لا يقبل المساومة و لا التنازل .. و من السخرية أن أغلب الأحزاب ما زالت تنتقد أداء الحكومة و لكنها لا تفكر في الانسحاب منها ، و وصل الأمر إلى أن بعض أعضاء الحكومة يؤكدون عدم علمهم بما يدور و صاروا يقبلون القيام بدور الموظف الذي يزعمون أنهم رفضوه في عهد الرئيس السابق . المتابع لما تنشره المواقع الإلكترونية المملوكة لبعض الوافدين الجدد السلطة و كذلك تلك المملوكة للأحزاب سيتحير في تحديد المسؤول عن الكوارث المحيطة باليمن ، و سيجد نفسه أكثر اضطرابا إذا ما حاول البحث عن الحقيقة المجردة ، و الكل يصرخ لتنفيذ ما نتج عن لقاءات «الموفنبيك» رغم أن أحد المشاركين كتب متحديا أن تكون توصيات فرق العمل المختلفة قد جرى نشرها بالكامل ، و قال إن كثيرا منها متناقض إلى حد كبير ، و لا أجد ذلك عيبا في حق اللجان لأنها كانت تلتقي على شكل جماعات في جزر متناثرة ، و كان التنسيق واجبا على الأمانة العامة التي تحولت (برعاية مبعوث الأمم المتحدة) إلى مسير وحيد و موجه أوحد لما يدور وما ينشر ، بل و ما تقرره بعض اللجان و ليس ذلك استنتاجا و لكنه من واقع سمعته من كثيرين حضروا و شاركوا ، و تفرغت الأمانة العامة للبحث عن مواقع لها بعد انفضاض اللقاءات جزاء عملها في خدمة من يمتلكون القرار و تحقق ذلك للبعض بينما آخرون ينتظرون مكافآتهم ، و لعب جمال بنعمر الدور الأكبر و الأخطر في «الموفنبيك» و التاريخ المنصف لن يجد له الكثير من الإيجابيات التي تتوافق مع ما حصل عليه من شهرة و صلت إليه بالصدفة . الأسابيع الماضية شهدت سقوط مدينة عمران في يد «الحوثيين» و لم تجدِ مناشدات المجتمع الدولي و إعلان الخطوط الحمراء التي داس عليها المقاتلون ، و لم تجدِ صفقات «الحياد» و صار السلاح وحده يرسم الخارطة المستقبلية لليمن ، فممثلو «أنصار الله» كانوا شركاء في لقاءات «الموفنبيك» و أحاطهم الكل بالرعاية و أشادوا بدورهم الإيجابي في أعمال اللجنة و لكن كل هذا المديح لم يُترجم إلى واقع يمنحهم الشراكة في السلطة كما نصت وثيقة الضمانات التي نسيها الجميع ، و كان الجميع يعلم أن فرض خطوط الأقاليم المبتسرة و المشوهة ما كان له أن يرى النور ولا أن يتحول إلى واقع إيجابي لأنه اعتمد على الهوى و الرغبات الذاتية ، و رغم أن أحد المشاركين في التوقيع على وثيقة التقسيم أراد إقناعي بنجاعة الفكرة الاقتصادية التي بُنيت عليها الوثيقة لكن الواقع يدل على نقيض ذلك تماما و لم يجرؤ أحد على إعلان معاييرها .
إنني ما زلت أرى أن التمدد الحوثي طبيعي في سياقه المذهبي لكني لا أتفق مع الأسلوب الذي تمارسه جماعاته على الأرض و تتحدى به الجميع بقوتها و تماسكها ، و أجزم بأن الحركة الحوثية لو تحولت إلى عمل سياسي منظم فستستطيع الحصول على المزيد من النفوذ و السيطرة و كذلك المشاركة المستحقَّة في الحكم الذي تحدثت عنه ورقة الضمانات المنسية .. و في المقابل تكاثرت اللقاءات التي تجتمع تحت شعارات «الاصطفاف الوطني» و صياغة «ميثاق شرف» و «تحديد الخطوط الحمراء» و «المصالحة الوطنية» و الواقع أنها كلها مفردات جذابة في مظهرها و لكنها تدفع إلى التساؤل عن «مؤتمر الحوار الوطني الشامل» و ماذا نتج عنه ؟ و ما مصير مقررات «الموفنبيك» ؟ و لماذا لا يشرح أحد للناس مَن المعيق و ما المعوقات ؟ و لماذا الغموض و إحالة الشرح إلى مجهول تتناثر الكلمات على لسانه و لا يجرؤ على الحديث العلني باسمه الصريح ؟! يعيش اليمن حالة قلق و خوف على مستقبله كانت معالمها و اضحة لمن يريد أن يرى الأمر كما هو و كان و اضحا أن الأولويات التي يجب العمل على ترتيبها و معالجتها قد التبست و ضاعت ملامحها لأن أبصار الوافدين الجدد كانت تسير على نهج شديد التركيز على المصالح الذاتية ، و هي مشروعة لكنهم غلّبوها على المصلحة الوطنية فصار همّ الوطن و المواطن متأخرا في تفكيرهم و لم يعودوا قادرين و لا راغبين في بذل قسط من الجهد و الوقت .. من هنا تراكمت الأزمات و تعقدت خيوطها فضاعت البوصلة و صار الانشغال بتأمين الذات يسبق البحث عن تأمين الوطن ، و عندما أفاق هؤلاء كان المشهد مختلفا عما بدأت به المرحلة و لم تعد ملامح الطريق تشير إلى مخارج تبعد البلاد عن مخاطر التمزق و التشظي الذي ستصبح معه الأقاليم الستة فكرة غير مجدية كما حاولوا الترويج لها و لمنافعها ، و حتما سيبدأ الحديث عن دورة جديدة من الحوارات و اللقاءات تحت أسماء قديمة - جديدة ، و لكن الأمر الجلي هو أنه لا أحد يريد الحديث عن المشكلة الحقيقية و وسائل الانعتاق منها و منع تكرارها . يتحدث كثيرون بقلق عن مستقبل شديد القتامة و يدرك الجميع أن الاحتماء بالخارج و السفراء العشرة ليس حلا ولا مخرجا فهؤلاء سيكونون أول من يفر من المواجهة و لا يرون في اليمن أكثر من حقل تجارب ، و كان الرد على بيان السفراء الأخير الموجه إلى السيد عبد الملك الحوثي مشبعا بالاستخفاف منهم و عدم الاكثراث بما جاء فيه ، و لعل الذين راهنوا على قرارات مجلس الأمن بشأن اليمن و ركنوا إلى الخارج و تجاهلوا الداخل يدركون خطأ الحساب و التحليل ، فالشواهد ما زالت ماثلة في العراق و ليبيا و سوريا و كذلك في عمران و حجة و الجوف ، و في محيط العاصمة ، كما أن التهديد المستمر بالخطوط الحمراء و التفاخر بحياد الدولة في الصراعات الداخلية مآلاتهما كارثية .