احمد المسلماني
زرت إسبانيا قبل أعوام ثم عدت لزيارتها قبل أيام . فى المرة الأولى زرت نادى ريال مدريد و فى المرة الثانية زرت نادى برشلونة .. و فى المرتين كانت معظم أحاديث من قابلت عن كرة القدم ثم يمضى الحديث قرب نهايته إلى «السياسة» ثم إلى «الحضارة». قال لى صديق يعمل فى شركة كبرى فى إسبانيا فى الأيام الأولى لعملى هنا رأيت بعضهم يقول للبعض الآخر «إنه عربى» ثم لاحظت أن ذلك قد تكرر أكثر من مرة و قد ظننت فى البداية أنهم يتحدثون عن أننى «عربى» أى أننى «غير متميز» و أننى أقل من المعايير القائمة . لكن طريقة الحديث عن كونى «عربيًا» لم تكن مسيئة ثم أدركت أنهم يقولون ذلك على سبيل المديح و الثناء ذلك أنهم يرون «العربَ» أصحاب حضارة لاتزال معالمها شامخةً فى بلادهم . و أن من يزور «أندلسية» - منطقة الأندلس فى إسبانيا - سوف يصاب بالذهول من المستوى الأسطورى الذى وصلت إليه الحضارة الإسلامية فى أوروبا قبل قرون . الصورة الذهنية للعرب إذن عند كثير من الإسبان أنهم أصحاب تلك الحضارة الباهرة فى قرطبة و أشبيلية و غرناطة أنهم أصحاب «العلم» و«المعرفة» فى الطب و الهندسة و الفلسفة . ففى الأندلس يتجلى تفوق «العقل الإسلامى» جلالاً و احترامًا . فالمدرسة الإسلامية فى العمارة و الفنون الجميلة لا مثيل لها , و المدرسة الطبية الإسلامية فى التشخيص و العلاج لا سابق لها , و المدرسة الفلسفية الإسلامية فى الارتفاع بالعقل و السمو بالروح فى إبداع عميق يصل العلم بالإيمان ، و يزن بين تطويع المادة و تهذيب النفس لا مكافئ لها . فى الأندلس كانت الحضارة بمستوى الإسلام و كان المسلمون بمستوى الحضارة . كان ذلك فى زمن لم تتحكم فيه «جماعات الإسلام السياسى» فى المكان و التى ما إن ظهرت - فيما بعد - حتى انهزم المسلمون و خرج الإسلام من إسبانيا ! كان مفكرو «الإسلام الحضارى» هم من قاموا بالبناء ، و كان منافقو «الإسلام السياسى» هم من قاموا بالهدم . كان العلماء و الفلاسفة و أهل الفكر و العقل هم من صنعوا تلك الحضارة الإسلامية البديعة فى جنوب أوروبا . و كان المتطرفون و المتنطعون من جماعات الإسلام السياسى هم من قاموا بنشر «ثقافة الوهن» فى المجتمع و الدولة تفسيقًا و تبديعًا و تكفيرًا . أَقام «المعتدلون المسلمون» الدين و الدنيا فى «آخر بلاد المسلمين» و هدم «المسلمون المتطرفون» الدين و الدنيا فى قلب بلاد المسلمين ! لو أن «الإسلام الحضارى» كان هو المنتصر الآن لكانت مكانة المسلمين هى الأعلى فى العالم ذلك أن غياب الدور الروحى للإسلام و انكسار الرسالة الأخلاقية للمسلمين أصاب - ضمن ما أصاب - الغرب نفسه . ذلك أن المسلمين ليسوا وحدهم من يحتاجون القيم السامية فى الإسلام بل العالم بكامله يحتاج إلى ترميم الروح و استعادة القيم و العودة من «اللامعنى» و «اللاإنسانية» إلى المعنى و الرسالة . كان مما أدهشنى كثيرًا فى زيارتى إلى نادى برشلونة هو ما سمعته من أصدقاء يقيمون هناك عن تجاوز بعض مشجعى النادى مستوى «الانتماء» إلى مستوى العقيدة و مستوى «التشجيع الكروى» إلى مستوى «الدين الرياضى». تستغرق زيارة نادى برشلونة ساعتين تقريبًا يزور خلالها المرء أرض الملعب و المدرجات و يتجول فى متحف للصور و متحف للمباريات و متجر كبير لبيع ملابس و منتجات النادى و مطاعم و مقاه يرتادها آلاف من الزوار يوميًا . كم تمنيت أن يقوم «النادى الأهلى» و «نادى الزمالك» بنقل هذه التجربة لاسيما أن «الأهلى و الزمالك» لديهما تاريخ عميق يمتد لأكثر من قرن من الزمان كما أنهما يحظيان بمكانة دولية متميزة و بمكانة أفريقية و عربية لا نظير لها . يقوم اقتصاد نادى برشلونة على بيع كل شىء , إنك أثناء جولتك تجد من يطلب منك أن تلتقط صورًا تذكارية ثم يقول لك ليس من الضرورى أن تشتريها فقط عليك أن تمر فى نهاية الرحلة على منفذ بيع الصور و شاهد نفسك بنفسك و إذا أعجبك أى شىء يمكنك حينئذ الشراء . و حين تذهب تجد ألبومًا رائعًا يحوى صورك ذات الجودة العالية و تجد نفسك فى بعضها واقفًا فى المنتصف و من حولك نجوم فريق برشلونة أو تجد نفسك إلى جوار نجم كرة القدم «ميسى»! لاشك أنك التقطت العديد من الصور بهاتفك.. ولاشك أنك حاولت التنويع ما بين صور «السيلفى» و صورك مع بعض الزوار الذين سيصبح بعضهم أصدقاءك بعد قليل . و لكنك رغم ذلك كله ستشترى صور النادى و ستدفع عشرات «اليوروهات» بارتياح تام لتعود بألبوم ممتع لزيارة نادرة . ليس هذا هو كل ما عند نادى برشلونة ذلك أنه بدأ يبيع «الموت» بعد أن نجح فى بيع «الحياة»! ثمة عدد من غير المتدينين فى أوروبا يريدون حرق جثثهم بعد موتهم و يطلبون من أقاربهم نثرها فى المكان الذى يحبونه و هناك من يطلب نثر رماده فى البحر أو الغابة أو فى مكان كان يرتاح له فى الحياة الدنيا . الجديد أن بعضهم يريد نثر رماده فى استاد برشلونة ! و المثير أن نادى برشلونة قد وافق مبدئيًا على ذلك و يفكر جديًا فى فرض رسوم باهظة لمن يرغب فى الأمر . عدت من زيارتى لنادى برشلونة مدركًا الأهمية المتزايدة للتسويق فى العصر الحديث لكن الأهم هو إدراكى للمكانة التى حققها الإسلام الحضارى فى الأندلس و المهانة التى ألحقتها جماعات الإسلام السياسى بأكثر من مليار و نصف المليار مسلم . إننا فى حاجة كبرى لإعادة قراءة حضارة ما قبل الإسلام السياسى حضارة الأندلس .