محمد الرميحي
الأسبوع الماضي شهدت القاهرة اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي قرروا فيه من بين أمور أخرى محاربة الإرهاب في كل صوره و تجلياته . حقيقة الأمر المفروض أن يجتمع هناك وزراء التعليم العرب بشقيه العام و العالي لأن جذور المشكلة عندهم طبعا على أن يكون معهم وزراء الإعلام و العمل ، و يفهم اللبيب لماذا «الإعلام و العمل» إذا كانت النية جادة و حقيقية في محاربة الإرهاب . إلا أن الأمر في شقه الأكثر جدية يظهر ملمحين , الأول ، أنه ليس خافيا أن هناك «اختلافا في وجهات النظر» - لوضع الفكرة دبلوماسيا - في تعريف الإرهاب . دول عربية كثيرة تنظر إلى «الإرهاب» من زوايا مختلفة ، و الثاني ، أنه عبر التاريخ الإنساني الممتد لعبت «الخرافة» وظيفة سياسية و الإرهاب يعتمد بشكل أساسي على الخرافة و هي تعني (تفسير ما لا يمكن تفسيره) من أجل الحشد و التجنيد . إذا جمعنا الأول و الثاني يتبين لنا كم هي معقدة أمور الإرهاب الذي يشتكي منه الجميع ، كما يعجز الجميع على التوافق على توصيفه . الإرهاب يبدأ في المدرسة العربية «و يكتمل في وسائل الإعلام» في هذه المرحلة التاريخية و السبب أننا نقدم لأبنائنا «خليطا مضللا من أنصاف الحقائق أو الأكاذيب الواضحة عن التراث» خالطين بشكل أعمى بين «تاريخ الإسلام» و بين «تاريخ المسلمين» دون مرشد حقيقي جدير بالثقة ، فيصبح أبناؤنا عرضة للاختطاف و الضياع وسط أدغال المفاهيم المغلوطة. الإرهاب ليس جديدا في تاريخنا فهو قديم قدم ذلك التاريخ ، لقد كان مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه جراء «فتوى» صدرت في مصر و حملها الغاضبون إلى المدينة على بعد آلاف الأميال ، كما أن محاولة التخلص من الأفكار الكاذبة الشائعة ليس جديدا لقد تصدى لها قبل أربعة قرون ونيف (أكثر من 400 سنة قبل اليوم) الشيخ جلال الدين السيوطي في كتابه الذي ربما لم يعرض في أي منهج اليوم في جامعاتنا ، و عنوانه «تحذير الخواص من أكاذيب القصاص»! ما لدينا اليوم هو كم من أكاذيب «القصاصين» متداخلة في مناهجنا الدراسية ، و شاشاتنا التلفزيونية ، و أخيرا وسائل الاتصال الاجتماعي التي تشغل جيلا كاملا من أبنائنا . لعلنا نتذكر المرحلة التاريخية التي كتب فيها ذلك الكتاب فقد كانت مرحلة اجتياح المغول لبغداد و سقوط الخلافة العباسية و طرد العرب المسلمين و نكبتهم في الأندلس ، و قتها ربما مثل وقتنا هذا انتشر لدى «الخواص» و تبعهم «العوام» أساطير من القصص التي دخلت في أذهان الناس كأنها مسلمات حول أسباب الهزيمة و كيفية عودة «العصر الذهبي»! حتى أضرب في عجالة مثالا للتذكير بما يجري اليوم ، فقد قرأت أخيرا مذكرات شاب مصري كان عضوا في جماعة الإخوان و تركها بعد معاناة ، و قدم للكتاب الأستاذ ثروت الخرباوي . يقول الكاتب و أرجو التدقيق في كلامه إنه بعد أن ترك الجماعة بفترة كان في الجامعة و حدث تجمع طلابي استرعى انتباهه فوقف يتفرج ، و بعد قليل سمع صيحات هادرة من خلفه «الله أكبر الله أكبر» و اندفع الجميع يقصدون مكتب العميد و في لحظة نسي صاحبنا كل الكلام العقلاني و اندفع معهم لأنه تعود طويلا أن تلك الصيحة تعني (النفير)! استيقظ لديه ما خزنه لفترة طويلة في مكنون نفسه دون وعي . يسعى القصاص الجدد في ترويج مبتغاهم الذهاب إلى المناطق الرمادية في تاريخ المسلمين (أقول المسلمين و ليس الإسلام) فينبشون الجانبي من القصص و يسقطونها على الحاضر فتصادف ألفة لدى البعض ، لأنهم قرأوها في مناهجهم الدراسية أو سمعوها في وسائل إعلامهم و هكذا تتكون مفاهيم مغلوطة تؤدي في النهاية إلى عمل ما سلبي في الغالب وصل في زماننا إلى حمل السلاح ! المفاهيم المغلوطة لها أربع خصائص كما يقول أستاذ السياسة ديفيد هامر 1996 هي :
1 - أفكار ثابتة و راسخة عن العالم . 2 - تتناقض مع أدلة ثبتت صحتها . 3 - تؤثر في الطريقة التي يفهم بها الناس العالم . 4 – لا بد أن يجري تصحيحها للوصول إلى المعرفة الصحيحة .
مربط الفرس هو طريقة التصحيح و أمامها عقبات تتراوح بين عدم الرغبة و الجهل و الاصطدام بالمصالح ! ثمة تعريفات كثيرة للخرافة الأقرب و الشائع منها «اعتقاد في قصة شهيرة و لكنها خاطئة أصبحت مرتبطة بشخص أو عادة أو حدث أو فكرة»! المواطن العادي الذي لم يتسلح بما يمكن تسميته القراءة المقاومة ، أي التفكير العقلي بما يسمع أو يشاهد يقع فريسة لأنواع كثيرة من الأفكار الخاطئة ، و تساعد وسائل الاتصال الحديثة على ترويج هائل لتلك الأفكار سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية . لينظر أحدنا إلى شبكة الإنترنت تحت عنوان «التحذير من...» سوف يجد كتبا كاملة مثل ««رفع منار الدين و هدم أفكار دعاة التسامح مع الكافرين» أو «تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي»! الخرافة ليست في التراث فقط فهناك على أمثال مواصفاتها خرافة سياسية و اجتماعية و صحية و غيرها التي تأخذ شكل الآفة في الذهن و من ثم تجلب الراحة و تطوق معتنقها في إطار لا فكاك منه . أخرجت سياسات طويلة أو قل النقص في السياسات أخرجت أجيالا غير صديقة للعصر مما شكل غيمة فكرية ما زالت تضلل الجمهور العربي سواء في مناهج الدراسة أو وسائل الإعلام ، تبث الكثير من الخرافة ممزوجة بالكراهية و وظفت لأسباب سياسية دون النظر إلى نتائجها العكسية على المدى المتوسط و الطويل ، الأكثر رواجا للخرافة في المناطق الرمادية التي تبدأ من السياسي و تمر بالاجتماعي و تنتهي بالعقدي و هنا يزدهر سوق بيعها . تخليص الأبناء من الأفكار الخرافية عملية معقدة و طويلة نسبيا فلا يمكن أن يتعقب أحد كل خرافة أو إشاعة أو تضليل و لكن من الممكن بناء ميكانيكية تفكير يعرض عليها الإنسان كل ما يسمع أو يقرأ و يحدد استنتاجاته بنفسه . لن يحدث ذلك إلا إذا أدرجت تلك الميكانيكية في مناهجنا الدراسية و وسائل إعلامنا ، و قبل ذلك يتاح البوح و النقد لتلك الأفكار دون قيود . لقد أصبح العلم الاجتماعي الحديث قريبا من تصميم مهارات لمحو الخرافات إلا أن هناك تيارا معاكسا و جارفا لتثبيت تلك الخرافات و ربطها بمصالح ظاهرة أو باطنة محوها يحتاج إلى شجاعة في القرار و سرعة التنفيذ ، و الأمر ذاك لا يحتاج وزراء الخارجية بل وزراء التربية و الإعلام !
آخر الكلام :
كثير ما ألتقي ببعض الشباب في معارض الكتب العربية التي انتشرت كالفطر بيننا اليوم و هم يسألون أين أجد كتاب الشيخ .. و هو لا يريد أن يسمع من أحد اقتراحا بقراءة شيء آخر بل أصبح هذا التيار من القوة بأن يفرض (تحريم كتب بعينها) و انساقت السلط خلف هذا التحريم !!
* نقلا عن "الشرق الأوسط"
تعليق : لا تجعل العنوان يخدعك أنة مقال سياسي عادي بل هو فكري من الطراز الأول بحجم الكاتب نفسة المفكر المعروف الدكتور محمد الرميحي , انصح بقراءتة بشدة راح تفهم مفاهيم عمرك ما فكرت فيها أو كيف تحللها ؟ بالاضافة لاسم كتاب مميز راح يعمل فرق كبير في حياتك و نظرتك لكثير من الامور لو قريتة .