فهد عامر الأحمدي
كان الأفيون يباع لدى العطارين في المدينة المنورة كمادة مسكنة للألم .. لم يفكر فيه أحد كمادة مخدرة بل كان يباع كعلاج لآلام المفاصل و كسور العظام و تسوس الأسنان .. و إقرارنا بهذه المعلومة لا يعني المطالبة بعودته بل لإظهار المفارقة بين موقفنا تجاهه في الماضي و الحاضر . و أتصور أن نفس المفارقة كانت موجودة مع مخدرات أخرى حول العالم .. ففي مصر مثلا أخبرني أحد العطارين أن والده وجده كانا يبيعان الهيروين و الحشيش لنفس الغرض .. و بعد منع المادتين استمراا في بيع بذرة الحشيش كمادة مسكنة للألم قبل أن يصدر قرار بعدم بيعها إلا بتصريح خاص من الشرطة .. حتى منعت تماما في أواخر السبعينيات . و حتى خارج عالمنا العربي توجد أمثلة على نفس المفارقة فأوروبا مثلا كانت تستورد الهيروين و الأعشاب المخدرة كنوع من البهارات الآسيوية .. و في عام 1897 أنتجت شركة باير الألمانية (و هي بالمناسبة الشركة التي أنتجت الاسبيرين لأول مرة) مسكنا للألم يدعى بايرهيروين Bayer Heroin. و هو كما يشير اسمه يتضمن مخدر الهيروين الذي كانت مادته الخام تستورد من أفغانستان (التي ماتزال حتى يومنا هذا تعد أكبر مصدر للهيروين و الكوكايين في العالم). و بحلول عام 1944 أصبح العقار يستخدم لعلاج أمراض كثيرة بدءا من تسكين إصابات الجنود في الحرب العالمية الثانية الى علاج المدمنين على المخدرات في نيويورك و شيكاغو (حيث تصرف لهم جرعات تنخفض بالتدريج لمساعدتهم في التخلص من الأعراض الانسحابية لمشتقات الهيروين) .. أما العجيب فعلا فهو ما كان يحدث في شركة كوكاكولا (و المشروبات الغازية عموما) التي كانت تضيف لمشروباتها نبتة مخدرة تدعى كوكا .. فكلمتا "كوكا" و "كولا" تشيران الى أهم عنصرين مكونين لهذا المشروب ... الكولا نبتة أفريقية كانت تستعمل منذ آلاف السنين لصنع مشروب منعش أخضر اللون .. والكوكا نبتة مخدرة تنبت في أمريكا الجنوبية و تستخرج منها مادة الكوكايين التي تستعمل حتى اليوم كمخدر خفيف لدى سكان الأنديز (الذين يمضغون أوراقها المجففة بطريقة تذكرنا بنبتة القات في اليمن) .. و حين قام الصيدلي جون بمبرتون بتحضير مشروب "الكوكاكولا" لأول مرة عام 1885 كان يهدف فقط الى صنع دواء منعش و مخفف لآلام المرضى .. و هكذا وضع نبتة الكوكا في مشروبه الذي لقي استحسان زبائن الصيدلية - و انتشر حتى بين الأصحاء من الناس .. و حين تأسست الشركة ظلت نبتة الكوكا مكونا أساسيا في المشروب لمدة خمسة و أربعين عاما حتى تم تصنيفها كمخدر و منعت نهائيا عام 1929 (رغم بقاء اسم المشروب كما هو حتى اليوم) ! و الكوكا - مثل الحشيش و الأفيون - نماذج لمواد مخدرة كانت مباحة في الماضي قبل أن تمنع في الحاضر بسبب غلبة أضرارها على حسناتها .. و هذه المفارقة مستمرة حتى اليوم حيث توجد مواد مخدرة أو مسكرة لم تدخل حتى الآن تحت مظلة المنع القانوني أو التحريم الشرعي (و لكنني أتوقع لها ذلك مستقبلا) .. و الحقيقة هي أن الأمثلة كثيرة و لكن يصعب ذكرها خشية التنبيه لوجودها في ظل عدم وجود مساءلة قانونية تجاهها .. غير أن هناك نبتة القات التي لا تخفى على أحد و تنتشر في اليمن و الصومال و أثيوبيا و لا تعد ممنوعة قانونا هناك (و إن كنا نأمل ذلك مستقبلا خصوصا بعد أن صنفتها منظمة الصحة العالمية عام 1973 كمادة مخدرة). على أي حال هذه كلها نماذج تؤكد أن النظرة تجاه المواد المخدرة قد تتطور و تتغير و تتفاوت بحسب ظروف الزمان و المكان .. و لكن سواء شملها أو تجاهلها القانون يظل الثابت الوحيد هو تحريم كل خبيث و مسكر و مفتر بصرف النظر عن الاسم و الموقع .