رضوان السيد
في عام 1974 انعقد بالكويت مؤتمر حضره كبار المثقفين العرب موضوعه «الموروث و أزمة الحضارة». و منذ ذلك الحين كتب مثقفون عرب كثيرون في التأزم الحضاري و أعادوه إلى الفوات و ضرورات القطيعة مع التراث ، لكي يمكن للعرب و المسلمين الدخول في حضارة العصر و عصر العالم . و بالإضافة إلى مشروعات العروي و الجابري و أركون و أومليل و آخرين ، كان لكِتاب «الاستشراق» (1978) لإدوارد سعيد تأثير في الجانب الآخر من المشكلة التي ازدادت تعقيداً لدى المفكرين في الشرق و الغرب . و تبعاً لذلك و من الجانبين ، فإنّ حضارتنا لا تعاني من الانحطاط المستمر منذ ألف عام فقط ، بل هناك الخطاب الاستعماري الحديث الذي حاصر الحضارة في أزمنتها الكلاسيكية في خطابٍ سلطوي هدفه تبرير الاستعمار و تسويغه من الناحية الثقافية أيضاً . لقد زاد الطين بلة كما يقال،السياسات الدولية في نهايات الحرب الباردة ، و المواجهات التي كان على الحضارة الغربية خوضها مع «الإسلام الأصولي» المتعملق في وجه العولمة و النظام العالمي الجديد (صراع الحضارات عند هنتنغتون)، لكي يتحقق الانتصار النهائي (فوكوياما) للحضارة الليبرالية الديمقراطية و اقتصاد السوق . و توازى ذلك كله مع انفجار الإحيائيات و الصحويات التي كانت دفاعية في إيضاح مظلومية الإسلام ، ثم تحولت إلى انشقاقات و عنفٍ عنيف بلغ ذروته في حدث العام 2001 (تفجيرات 11 سبتمبر على يد «القاعدة»). و جاءت الموجة الثانية في حروب «داعش» و وقائع التوحش الذي فتت مجتمعات و صدع أنظمة و دولاً و سلطات . هل حدث ذلك كلُّه فكرياً و أمنياً و عسكرياً (في الحرب العالمية على الإرهاب) باعتباره أفعالاً و ردود أفعال بين المسلمين و العالم ؟ و ما علاقة الموروث بذلك ؟ المقاتلون في مواجهة الحملات العالمية سموا أنفسهم سلفيين جهاديين . وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد (الذي توفي قبل أيام)، مهندس الحرب على العراق ، قال إنّ الإسلام مخطوف ، و لا بد من أن يعاون العالم المعتدلين من المسلمين لتحريره من خاطفيه . أما المتشددون أنفسهم فحملوا يافطات معينة من الموروث الذي اعتبروه الإسلام الصحيح و راحوا يتحدون بها المسلمين الآخرين و العالم . أما علماء المسلمين الذين روعهم العنف و الانشقاقات ، و روعتهم الإسلاموفوبيا العالمية ، فخاضوا معارك «تأصيل» مع الإحيائيين و الصحويين و المقاتلين . الانشقاقيون يوردون هذه الآية القرآنية أو تلك ، و أعداء العنف باسم الدين يوردون آياتٍ أخرى في المسالمة و الموادعة و الانفتاح على العالم . لقد وقعنا جميعاً في مستنقعات المرارة و الإنكار و قلة الحيلة و تارة ننحي باللائمة على جهاديي التوحش ، و طوراً ننصرف باللائمة إلى السياسات الدولية . في إحدى زياراتي لأبوظبي اقتنيت كتاب أريك هوبسباوم المؤرخ البريطاني الكبير ، المترجم في «كلمة» بعنوان «اختراع التقاليد». و العنوان غريب باعتبار أن التقليد قائم و عريق و لا يمكن اختراعه . أما الواقع - كما يستظهر الكتاب - فهو أن التقاليد الكتابية و الاجتماعية لا تحدث معها قطيعة في الواقع بل تتغير و تتجدد و تؤول في عملياتٍ مستمرةٍ تقع و تتوالى بين المجتمع و التاريخ ، لا فرق في ذلك بين النصوص و التقاليد الدينية و الأُخرى الثقافية و الاجتماعية . و كان ذلك هو المدخل الذي التفت إليه الدارس الألماني المعروف توماس باور صاحب كتابي « ثقافة الالتباس » ، و « لماذا لم تكن في الإسلام عصورٌ وسطى ». فبحسب باور فإنه ما كان هناك انقطاع بين الثقافة الكلاسيكية و الأخرى العربية الإسلامية . و الأمر نفسه حدث في القرنين الأخيرين بين الثقافة الإسلامية و الثقافة الغربية . فليست هناك قطيعةٌ في الواقع ، لكنها حدثت في «الخطاب» حين أريد المماهاة بين مقولة العصور الوسطى الأوروبية و الأخرى الإسلامية . و كما خرج الأوروبيون من عصورهم الوسطى ، ينبغي أن يخرج المسلمون من عصورهم الوسطى لكي يدخلوا في الحداثة! مؤرخو مدرسة الحوليات الفرنسية توصلوا إلى أن «الحداثة» ظهرت في العصور الوسطى التي ما كانت منحطّة و لا ظلامية و ما جرت قطيعة معها ، كما أنها ما شكلت حاجزاً أو عائقاً ، و كذا الحداثة عند المسلمين و التي ما احتاجت و لن تحتاج إلى قطيعةٍ مع الموروثات . إن استقبال الجديد الإنساني و التقدمي لا يحتاج إلى نفي القديم أو التنكر له ، بل هو محتاج إليه في فهمه و تجاوزه و اختراع «تقاليد» جديدة تبدو قديمةً أو عريقة و هي ليست كذلك . إنّ استقبال الجديد هو بدوره عمل من أعمال فهم الموروث و جدليات تجاوزه بدون إنكارٍ و لا قطيعة . فالمتشددون في وعيهم هم غير تاريخيين ، و أهل القطيعة من الحداثيين هم «فوق تاريخيين». و كما قال هيراقليطس : إن المياه لا تجري في النهر مرتين !