محمد حبيب
هذه هى الحلقة (٦) من دراستنا بعنوان «غروب الجماعة» و تتناول قضية مهمة لها آثارها و أخطارها ليس فقط على غير المسلمين و إنما على المسلمين أيضاً ، أقصد بها قضية اعتبار مجرد علة الكفر سبباً للقتال فى الإسلام .. إذ من الأحاديث الشهيرة التى يستمد منها دعاة العنف و الإرهاب من أمثال داعش و القاعدة (و من لف لفهم) حجتهم فى قتال غير المسلمين ما أورده البخارى فى كتاب الإيمان (٢٥/١) أن النبى (صلى الله عليه و سلم) قال : «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم و أموالهم إلا بحقها، و حسابهم على الله».. و الحديث -كما هو واضح- يتناقض بشكل صارخ مع قوله تعالى : «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة : ٢٥٦)، و قوله أيضاً : «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: ٢٩)، وقوله كذلك : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس : ٩٩)، و قوله : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود: ١١٨).. هذه الآيات و غيرها هى آيات محكمات لا تقبل نسخاً و لا تأويلاً و تضع الحديث المذكور موضع الشك و الريبة ، و عدم القبول .. و من الأحاديث الشهيرة التى يعتمدون عليها أيضاً ما جاء بمسند الإمام أحمد عن ابن عمر (رضى الله عنهما) أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال : «بعثت بين يدى الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك الله ، و جعل رزقى تحت ظل رمحى ، و جعل الصغار على من خالف أمرى ، و من تشبه بقوم فهو منهم».. هذا الحديث بغض النظر عما أثير حول سنده يتناقض بل يتصادم متنه مع الكثير من الآيات القرآنية المكية و المدنية ، و هو ما يجعلنا نرده و نتوقف عن قبوله و الرضا به .. تأمل قول الله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء : ١٠٧)، و قوله : «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» (النحل : ٨٩) و غير ذلك من الايات .. تدبر أيضاً قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : «إنما أنا رحمة مهداة» فكيف يتفق هذا مع السيف و الرمح خاصة و نحن نتحدث عن دعوة الآخرين (بالحكمة و الموعظة الحسنة) و إقامة الحجة على المخالفين لدين الله (بالإقناع و المناقشة و الحوار و الجدال بالتى هى أحسن) حتى يعبد الله وحده لا شريك له (طواعية و اختياراً و دون شبهة إكراه)؟! إن جمهور الفقهاء من المالكية و الحنفية و الحنابلة يقولون إن العلة التى تبيح للمسلمين قتال أعدائهم هى الحرابة - أى المحاربة - و المقاتلة و الاعتداء وليس مجرد الكفر ، بينما يرى الشافعى فى أحد قوليه أن علة القتال هى الكفر . و رأى الجمهور هو الراجح بناء على الآيات المحكمات التى ذكرناها آنفاً .. و قد أورد فيصل مولوى فى كتابه (المسلم مواطناً فى أوروبا) أدلة أخرى من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التى تمنع قتل كثير من الكفار لأنهم لم يحاربوا أو لعدم قدرتهم على القتال .. و قد استدل أيضاً بوصية أبى بكر لجيشه و هى ألا يتعرضوا لمن حبسوا أنفسهم فى الصوامع ، و ألا يقتلوا امرأة و لا صبياً و لا كبيراً هرماً ، و بما ذكره البيهقى عن جابر أنه قال : «كانوا لا يقتلون تجار المشركين» و عن عمر بن الخطاب أنه قال : «اتقوا الله فى الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب».. إن الأصل فى العلاقة بين المسلمين و غيرهم ليست الحرب ، و لا يكون الكافر حربياً إلا إذا أعلن هو (أو دولته) الحرب على المسلمين ، أو إذا أعلن المسلمون الحرب عليه أو على دولته لأسباب مشروعة و عند ذلك فقط يمكن أن نطبق فى معاملته أحكام الحرب . و فى كتابه (الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية) يعلق «الريسونى» على آية (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (المائدة : ١٣) بأنها تتضمن دعوة صريحة للعفو و الصفح عن الأعداء و الخصوم فيما يصدر منهم من إساءات و إذايات ، و هذا و ذاك من الفضائل الخلقية الكلية التى تصلح للأفراد و الجماعات و فى جميع الأحوال و المجالات ، و هى محتاج إليها مع المخالفين و الأعداء أكثر مما يحتاج إليها مع الأخوة و الأصدقاء .. و لكنها على كل حال عامة فى هؤلاء و هؤلاء ، بل إن هذه الآية و أمثالها إنما نزلت فى الأعداء و المناوئين لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الرغم من ذلك وجد من العلماء - سلفاً و خلفاً - من يقول بنسخها أو بتخصيصها ، كما أن عدداً من المفسرين يحكون ذلك دون إنكار أو تفنيد كما عند البيضاوى فى الآية المذكورة ، و أن العفو و الصفح مرتبط بالذين تابوا و آمنوا أو عاهدوا و التزموا «الجزية».. و قد حكى عن قتادة (أحد مفسرى التابعين) من أن هذه الآية منسوخة ، نسختها آية براءة (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» (التوبة : ٢٩) إلا أن الطبرى رفض القول بالنسخ و قال : و الذى قاله قتادة مدفوع إمكانه .. و ليس فى هذه الآية دلالة على الأمر بنفى معانى الصفح و العفو عن اليهود . لذا نقول إنه لا بد - ابتداء - من تنقية كتب التراث من النصوص التى تأمر و تحرض على قتال أهل الكفر لمجرد علة الكفر ، و ذلك لمخالفتها و عدم اتفاقها مع المحكم من الآيات ، حتى لا يقع من لا يتوافر لديهم الفهم و العلم و الفقه فى أخطاء و خطايا كبيرة تصل إلى حد استحلال الكثير من الدماء!!.. و الذى يتأمل حال جماعات التكفير و العنف و الإرهاب قديماً و حديثاً و ما ترتكبه من جرائم بشعة فى حق الإنسانية يتأكد له أن هؤلاء يحملون - إلى جانب جهلهم - نفوساً مريضة (ناقمة و حاقدة) و ينتمون إلى بيئات تعيسة (أسرياً و عاطفياً) و يعكسون حياة لاهية و عابثة (فارغة بلا أهداف و لا مضمون) الأمر الذى جعلهم يبحثون عن أدوار يحققون فيها ذواتهم و لو على حساب دماء الآخرين .. هذه الجماعات تنظر إلى أنظمة الحكم العربية و مؤسساتها من جيش و شرطة و قضاء و إعلام على أنها كافرة ، و تعتبر مجتمعاتها جاهلية (كما وصفها سيد قطب منذ أكثر من خمسين عاماً) و من ثم فهم يعتقدون بوجوب قتالها (!).. و لا شك أن الهجمات الإرهابية التى حدثت فى باريس مؤخراً و من قبلها إسقاط الطائرة الروسية تدل بوضوح على أن الخطر أصبح يهدد الجميع .. و هذا كله يضع أهل الفكر الصحيح و الفهم السليم أمام تبعة كبيرة و مسئولية ضخمة فى توضيح و تبيان أوجه الخطل و الخلل فيما وقع فيه هؤلاء .. و للأسف هذا الفكر ينتشر كما النار فى الهشيم ، و يجد له أنصاراً لدى الكثيرين من الشباب الذين لا يملكون علماً ، و لا فهماً ، و لا فقهاً .. و من ثم فإن تحصين شبابنا من الوقوع فى براثنه هو واجب الوقت حتى لا يتحولوا فى لحظة إلى إرهابيين .