أحمد برقاوي
يدلل التاريخ على انحطاطه بأشكال متعددة و بمعالم مختلفة غير أن الشكل الأفقع و المعلم الأوضح يظهران في خلو المجتمع من النخبة في لحظة ما من لحظات تاريخه . لقد حدثني بعض الأصدقاء اليمنيين حين كنت أستاذا في جامعة عدن بأن الجبهة القومية بعد أن آلت إليها السلطة في جنوب اليمن دعت إلى عقد مؤتمر للنخبة اليمانية الجنوبية التي تكونت زمن الاستعمار البريطاني و عقد المؤتمر فعلا و جاءت النخبة من كل أحياء اليمن الجنوبي و من خارجه ، و بعد انتهاء المؤتمر رتبت السلطة رحلة للمشاركين في المؤتمر إلى جزيرة سوقطرة بالطائرة ثم أسقطت بهم الطائرة و قضوا أجمعين . و لقد اعتقدت أن في القصة مبالغة و ربما كانت تهمة تكال للنظام القديم لأن عقلي في الأصل ليس باستطاعته أن يصدق حدوث سلوك كهذا إلى أن سألت الرئيس الأسبق لليمن الجنوبي علي ناصر محمد عن صحة هذه الواقعة فأكد لي حدوثها وردها إلى قرار من قحطان الشعبي رئيس جمهورية اليمن الجنوبية . تشير هذه الواقعة إلى الموقف الذي تتخذه الأنظمة الشمولية من النخب دون استثناء ، موقف يتسم بالعدوانية منها إن وجدت هذه النخب و تهميشها و الحيلولة دون ظهورها ، ذلك لأن النخبة هي جملة من الفئات ذات التفوق و الفاعلية في كل مجالات الحياة السياسية و الثقافية و الإدارية و الاقتصادية و التعليمية و الأهلية . و التي يسمح تفوقها هذا بممارسة حضورها القوي و تشكيل وعي مجتمعي بأهميتها مما يخلق لدى السلطة الدكتاتورية خوفا من تأثيرها بما لها من قوة الفاعلية . أجل إن هذا الخوف يحمل السلطة المستبدة على إفراغ المجتمع من النخبة كفئات حاضرة في كل المجالات التي ذكرت . فالدكتاتوريات في بلادنا على وجه الخصوص حطمت النخب السياسية عبر تحطيمها للحياة الحزبية ، و يغدو تعويل الدكتاتور على فئة متوسطة الذكاء و ما دون المتوسط هاجسها الثروة و ما يغدق عليها المنصب من امتيازات نتيجة الفساد ، و حتى النخبة العسكرية التي تحوز على الهيبة المجتمعية تتحطم خوفا من الدكتاتور من أن ينشأ لديها نزوع نحو السلطة ، فيما تبني النخبة الاقتصادية علاقة فساد و ولاء مع السلطة لزيادة ثروتها و تتحول إلى طبقة خائفة على امتيازاتها ، و تتحول النخبة الإدارية إلى مجموعة من الموظفين الساعين للاحتفاظ بالمنصب عبر إظهار الولاءات الكاذبة . و تغدو النخبة المجتمعية و بخاصة نخب المجتمع الأهلي في خبر كان و يستعاض عنها بأسافل الناس ، و تنهار بشكل شبه كامل النخبة الإعلامية بسبب غياب الإعلام الحر ناهيك عن أن النخبة المثقفة تتحول إلى حالات فردية ليس إلا . و هكذا سنة وراء سنة يجد المجتمع نفسه خاليا من النخبة ، مجتمعا بلا نخبة . النخبة كفئات و ليس كأفراد إذ يظل المجتمع حاويا على أفراد نخبويين و لكن من دون أن يشكلوا سلطة معنوية و أخلاقية و سياسية و اقتصادية قوية ، بل و تنهار مكانة النخبة في الوعي العام لتحل محلها الفئات الخدامة و المحتقرة من قبل الجمهور . و لعمري إن كارثة خلو المجتمع من نخبه تتمدد زمنا طويلا حتى بعد زوال الدكتاتوريات لأن إنتاج النخب ثمرة سيرورة طويلة من التقدم .
تعليق : و الله اللي صار في العرب بعد الاستقلال اسواء من الاستعمار , يعني تكونت نخبة خلال الاستعمار و جاء الحكم الوطني و قضاء عليها بدل ما يرعاها ؟ لا حول و لا قوة إلا بالله , لا و اسمها الجبهة القومية فعلا" شر البلية ما يضحك .