Joseph E. Stiglitz
Joseph E. Stiglitz, a Nobel laureate in economics and University Professor at Columbia University, was Chairman of President Bill Clinton’s Council of Economic Advisers and served as Senior Vice Pr…
نيويورك ــ بدأت المحكمة العليا في الولايات المتحدة مؤخرا مداولاتها في قضية تسلط الضوء على مسألة شديدة التعقيد تتصل بحقوق الملكية الفكرية. ويتعين على المحكمة أن تجيب على السؤال التالي: هل من الممكن إخضاع الجينات البشرية ــ جيناتك ــ لبراءات الاختراع؟ أو بعبارة أخرى، هل ينبغي لنا أن نسمح لأي شخص في الأساس بامتلاك حقوق إجراء فحص يحدد ما إذا كنت على سبيل المثال تحمل مجموعة من الجينات التي تشير إلى احتمالات أعلى من 50% بإصابتك بسرطان الثدي؟
بالنسبة لمن هم خارج عالم حقوق الملكية الفكرية الغامض فإن الإجابة تبدو واضحة: كلا بكل تأكيد. فأن تملك جيناتك. وأي شركة قد تمتلك على أكثر تقدير حقوق الملكية الفكرية التي أسست لابتكار فحصها الجيني؛ ولأن برامج البحث والتطوير المطلوبة لتطوير الفحص ربما كلفت الشركة مبالغ ضخمة، فإن الشركة ربما تتقاضى عن استحقاق تكاليف إجراء الفحص.
ولكن شركة مايريد جينيتكس التي تتخذ من ولاية يوتا مقراً لها، تدعي ما هو أكثر من ذلك. فهي تزعم أنها تمتلك الحق في أي فحص يشتمل على الجينين الحاسمين المرتبطين بسرطان الثدي ــ وقد مارست ذلك الحق بكل قسوة، رغم أن الفحص الذي تجريه أقل كفاءة من فحص آخر كانت جامعة ييل على استعداد لطرحه بتكلفة أقل كثيرا. وكانت العواقب مأساوية: ذلك أن الفحوص الشاملة التي يمكن إجراؤها بأسعار معقولة لتحديد المرضى المعرضين لخطورة عالية من شأنها أن تنقذ الأرواح. ومنع مثل هذه الفحوص يعني تكاليف في الأرواح. والواقع أن مايريد مثال صادق للشركة الأميركية التي يمثل الربح بالنسبة لها قيمة أعلى من كل القيم الأخرى، بما في ذلك قيمة الحياة البشرية ذاتها.
إنها قضية مؤثرة بشكل خاص. فعادة، يتحدث خبراء الاقتصاد عن المقايضات: فيزعمون أن حقوق الملكية الفكرية الأضعف، من شأنها أن تقوض حوافز الإبداع. والمفارقة العجيبة هنا هي أن اكتشاف شركة مايريد كان ليتم التوصل إليه في كل الأحوال، نظراً للجهود الدولية الممولة حكومياً لفك شفرة الجينوم البشري بالكامل، والتي مثلت إنجازاً فريداً من نوعه للعلوم الحديثة. وتضاءلت الفوائد الاجتماعية التي ترتبت على توصل مايريد قبل وقت مبكر قليلاً إلى هذا الاكتشاف أمام التكاليف التي فرضها سعيها المتحجر القلب إلى جني الأرباح.
وعلى نطاق أوسع، هناك إدراك متزايد لحقيقة مفادها أن نظام براءات الاختراع، بتصميمه الحالي، لا يفرض تكاليف اجتماعية باهظة فحسب، بل إنه يفشل أيضاً في تعظيم القدرة على الإبداع والابتكار. ففي نهاية المطاف، لم تخترع شركة مايريد التكنولوجيات التي استخدمتها لتحليل الجينات. ولو كانت هذه التكنولوجيات خاضعة لبراءة الاختراع، فإن مايريد ربما ما كانت للتمكن من التوصل إلى اكتشافها. ومن المؤكد أن سيطرتها المحكمة على استخدام براءات اختراعها حالت دون تطوير فحوصات أفضل وأكثر دقة لتحديد وجود الجينات الخطرة من عدمه. والفكرة هنا بسيطة: فكل البحوث تقوم على بحوث سابقة. ونظام براءات الاختراع الرديء التصميم ــ الذي نعمل بموجبه حاليا ــ من الممكن أن يحول دون إجراء بحوث المتابعة.
ولهذا السبب فإننا لا نسمح بإخضاع الرؤى الأساسية في الرياضيات لبراءات الاختراع. ولنفس السبب تُظهِر البحوث أن إخضاع الجينات لبراءات الاختراع يعني في واقع الأمر الحد من إنتاج معارف جديدة حول الجينات: فالـمُدخَل الأكثر أهمية في إنتاج معارف جديدة هو المعارف السابقة، والتي تمنعنا براءات الاختراع من الوصول إليها.
ولكن من حسن الحظ أن ما يحفز أغلب التطورات المهمة في المعرفة ليس الربح، بل السعي إلى المعرفة في حد ذاتها. وكانت هذه هي الحال بالنسبة لكل الاكتشافات والإبداعات التي حولت حياتنا ــ مثل الحمض النووي، والترانزستور، والليزر، والإنترنت، وهلم جرا.
وقد سلطت قضية قانونية أميركية منفصلة الضوء على أحد المخاطر الرئيسية المترتبة على نشوء السلطة الاحتكارية القائمة على براءة الاختراع: أو الفساد. فمع تجاوز الأسعار لتكاليف الإنتاج بدرجة كبيرة للغاية، يصبح من الممكن على سبيل المثال جني أرباح ضخمة بإقناع الصيدليات، أو المستشفيات، أو الأطباء بتحويل المبيعات إلى منتجاتك.
ومؤخراً اتهم المدعي العام الأميركي للمنطقة الجنوبية في نيويورك شركة المستحضرات الصيدلانية السويسرية العملاقة نوفارتيس بارتكاب هذه الفعلة على وجه التحديد من خلال تقديم عمولات غر قانونية، وإكراميات، وغير ذلك من الفوائد لأطباء ــ وهو على وجه التحديد ما وعدت بالامتناع عنه عندما انتهت إلى تسوية قضية مماثلة قبل ثلاثة أعوام. ووفقاً لحسابات مجموعة "المواطن العام"، وهي مجموعة تناصر المستهلكين، فإن صناعة المستحضرات الصيدلانية في الولايات المتحدة وحدها تكبدت مليارات الدولارات نتيجة لأحكام قضائية وتسويات مالية بين شركات الأدوية والحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات.
والمحزن في الأمر أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة كانت تلح في ضغوطها من أجل فرض أنظمة أكثر قوة لحقوق الملكية الفكرية في مختلف أنحاء العالم. فمثل هذه الأنظمة كفيلة بالحد من قدرة الدول الفقيرة على الوصول إلى المعرفة التي تحتاج إليها من أجل تحقيق أهداف التنمية ــ وحرمان مئات الملايين من البشر غير القادرين على تحمل الأسعار الاحتكارية التي تفرضها شركات الأدوية من القدرة على الوصول إلى العقاقير غير المحدودة الملكية والمنقذة للأرواح.
سوف تبلغ هذه القضية ذروتها في مفاوضات منظمة التجارة العالمية الجارية. والواقع أن اتفاقية الملكية الفكرية التابعة لمنظمة التجارة العالمية، توقعت في الأصل تمديد "المرونة" إلى الثمانية والأربعين بلداً الأقل نموا، حيث يقل متوسط نصيب الفرد في الدخل السنوي عن 800 دولار أميركي. وتبدو الاتفاقية الأصلية واضحة بشكل ملحوظ: فسوف تمدد منظمة التجارة العالمية هذه "المرونة" عند الطلب من قِبَل الدول الأقل نموا. ورغم أن هذه الدول تقدمت بمثل هذا الطلب بالفعل، فيبدو أن الولايات المتحدة ودول أوروبا مترددة في الالتزام.
إن حقوق الملكية الفكرية عبارة عن قواعد من صنعنا ــ ومن المفترض أن تعمل هذه القواعد على تحسين رفاهتنا الاجتماعية. ولكن أنظمة حقوق الملكية الفكرية غير المتوازنة تسفر عن العديد من أوجه القصور ــ بما في ذلك الأرباح الاحتكارية والفشل في تعظيم استخدام المعرفة ــ التي تعرقل وتيرة الإبداع. وكما تبين لنا قضية شركة مايريد، فإنها قد تؤدي حتى إلى خسائر غير ضرورية في أرواح البشر.
إن نظام حقوق الملكية الفكرية في أميركا ــ والنظام الذي ساعدت الولايات المتحدة في فرضه على بقية العالم من خلال اتفاقية الملكية الفكرية التابعة لمنظمة التجارة العالمية ــ غير متوازن. وينبغي لنا جميعاً أن نتمنى أن تساهم المحكمة العليا الأميركية، من خلال قرارها في قضية مايريد، في خلق إطار أكثر عقلانية وإنسانية.