ثروت الخرباوي
لكى نفهم الواقع يجب أن نمسك الخيط من أوله إذ إنه حتماً سيقودنا إلى تفسير حقيقى لأحداث تمر بنا نستشعرها غامضة و هى فى حقيقتها واضحة جلية . كان الخيط من أوله مع بريطانيا العظمى و مخابراتها فقد كانت وقتها هى القوة العظمى فى العالم ، صحيح كانت قوة آفلة كادت شمسها أن تغيب و صحيح أن أمريكا الفتية كانت على وشك أن تتأهب لأخذ مكانها إلا أن هذا لا ينفى أن الأسد البريطانية العجوز ما زال إلى الآن شريكاً رئيسياً لأمريكا و يكفى أن البداية كانت منه هو ، فذات يوم من الأيام الأولى من عام 1920 طرأت فكرة على خاطر «ألفرد ملنر» مدير المستعمرات البريطانية ، كان هذا الرجل شخصية محورية فى بريطانيا و كان قد عمل فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر مساعداً لوزير المالية الذى كان وقتها إنجليزياً ، استمر «ملنر» فى مصر أربع سنوات كاملة أصبح خلالها عارفاً بخريطة مصر الجغرافية و السياسية ، و حين قامت الثورة المصرية الأولى عام 1919 تُطالب بالاستقلال رأت إنجلترا أن ترسل هذا الرجل إلى مصر على رأس وفد إنجليزى كى يدرس أسباب الثورة و كيفية تجنبها ، هبط «ملنر» و هو يرتدى بزّته الإنجليزية الأنيقة من سفينته إلى أرض مصر كى يقوم بمهمته هذه فى ديسمبر من عام 1919 و ظل بها إلى آخر مارس 1920 تقابل خلالها مع عدد محدود من القيادات التنفيذية و السياسية فى مصر بعد أن أعرضت عنه غالبية النخب السياسية و أثناء ترحاله فى مصر مع خبراته السابقة وضع حلاً شيطانياً . عاد «ملنر» إلى بريطانيا و تقابل مع رئيس الوزراء «ديفيد لويد جورج» و أفضى إليه بما حدث له فى مصر من إعراض و أسرّ له بالفكرة التى اعتملت فى ذهنه بعدما التقى مع «اللنبى»، و عندما خرج من مقابلة رئيس الوزراء أجرت معه جريدة «مانشستر جارديان» حواراً قصيراً قال فيه إنه لا يمانع فى منح مصر الاستقلال بشرط عدم تعريض مصالح بريطانيا للخطر ثم أضاف : «إن اللورد اللنبى وافقنى على رأيى حتى ولو كنا سنمنح مصر استقلالاً كاملاً فإن هذا لا يضيرنا فى شىء». سألته الصحيفة : «و ما خطتكم فى الحفاظ على مصالح بريطانيا ؟»، فأجاب : «تكمن خطورة المصريين فى وحدتهم و لذلك كانت ثورتهم قوية لأن مصر أصبحت الكل فى واحد ، و ليكن ، و لكننا لن ندعهم يكررون الكل فى واحد». قالت الصحيفة : «كيف ؟» رد «ملنر» : «هناك من قال إن الدين أفيون و لكننى أؤكد أن الدين قنبلة» ,الصحيفة : «لم نفهم شيئاً من إجابتك سيدى!» , «ملنر» : «لا أستطيع الإيضاح أكثر من ذلك و لكن ليعلم الجميع أن الرب يعمل لمصلحة بريطانيا و سيكون له دور فى استمرار وصايتنا على مصر». انتهى كلام ألفرد ملنر لصحيفة مانشستر جارديان و لكن لم تنته القصة و الآن نستطيع إكمال المعلومات استقرائياً ، فكما كان فى عالم كرة القدم مهنة قديمة اسمها «الكشاف» يقوم فيها هذا الكشاف بالترحال فى البلاد للبحث عن شاب صغير موهوب فى لعبة الكرة ، فهناك فى عالم السياسة و المؤامرات و المخابرات كشاف يجوب العالم للبحث عن موهوب ينفذ خطة المدرب الأجنبى . الآن نستطيع الإجابة على عدة أسئلة ظلت إجاباتها غائبة عن التاريخ و هناك الأسئلة التى ظلت تبحث عن إجابة : 1 - لماذا قرر «البنا» أن يعمل فى مدينة الإسماعيلية التى كانت مقراً لشركة قناة السويس و إدارتها الأجنبية ؟ و لماذا فضّل أن يبتعد عن أهله و مدينته أو حتى مدينة القاهرة التى كانت طموح الريفيين من أصحاب الهمم العالية و الرغبة فى البزوغ ؟ 2 - لماذا تبرعت الإدارة الأجنبية لشركة قناة السويس لحسن البنا بمبلغ خمسمائة جنيه و هو مبلغ ضخم بمعايير العشرينيات ؟ و لماذا اعترض البنا على قلة قيمة هذا التبرع رغم ضخامته وفقاً لما أورده فى مذكراته ؟ فقد أورد أنه ساوم رئيس شركة قناة السويس و طالبه بمبلغ أكبر ! و لنعد إلى ثورة 1919 و ما تلاها لنعرف كيف فكر «ملنر» و لماذا وافقه رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج . كانت مصر قد بدأت تأخذ خطواتها فى طريق المدنية الحديثة و تعالت الأصوات من رجالها تطالب بالاستقلال الكامل وخرجت النساء لأول مرة فى تاريخ مصر فى مظاهرات تشارك فيها الرجال فى المطالبة بالاستقلال ذلك الحلم المنشود لمصر ، كانت كل مصر و كأنها قد تجمعت على قلب واحد يقول : إن مصر دولة ذات حضارة ضاربة فى أعماق التاريخ و لا ينبغى أبداً أن تظل رهينة فى يد الاحتلال حتى و لو كانت إنجلترا إمبراطورية عظمى فإن مصر بتاريخها و عمقها الحضارى أعظم ، و لكن موازين القوة لا تعترف بالماضى هى تعرف الحاضر فقط . و مع الرغبة الجارفة فى الاستقلال عن إنجلترا كانت هناك رغبة أخرى كامنة فى الضمير المصرى بالاستقلال عن الدولة العثمانية و لكن كان هناك أنصار للدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية . انتهت فعاليات الثورة و قبلت الحكومة البريطانية آراء «ملنر» و أصدرت الحكومة البريطانية تصريح 28 فبراير 1922 الذى أعلن من طرف واحد استقلال مصر إذ لم يكن هناك فى مصر وقتها من وافق على توقيع معاهدة مع الإنجليز لذلك جاء بيان الاستقلال هذا على شكل تصريح . نزل هذا التصريح على قلب السلطان فؤاد برداً و سلاماً الآن يستطيع أن يتخذ لنفسه لقب «جلالة الملك» و يصبح كجورج الخامس ملك إنجلترا فليس وحده هو الملك و لكن فؤاد أيضاً كذلك ، و فى 31 مارس 1923 خرجت أنفاس المصريين من صدورهم و هى تحمل زفير الفرحة فقد تم فى هذا اليوم الإفراج عن سعد زغلول و رفاقه فسافر سعد إلى فرنسا ثم سُمح له بالعودة إلى مصر فعاد فى 18 سبتمبر 1923 و خرج المصريون فى كل المدن و القرى يغنون أغنية سيد درويش التى لحنها احتفالاً بعودة سعد و لكنه مات قبل عودة سعد بثلاثة أيام وهى «سالمة يا سلامة .. رحنا و جينا بالسلامة». وسط هذه الأحداث صدر دستور 1923 وضح فيه أن مصر أخذت طريقها لبناء دولتها الدستورية الحديثة التى لها خلفية مرتبطة بالوطن و التاريخ . انحاز الدستور لدولة يتم تنظيم مؤسساتها على النسق العالمى الحديث لها جهات تشريعية تملك الحق فى التشريع لنفسها و إصدار القوانين ، و لها سلطة قضائية ، تراقب تطبيق القانون و تعمل على تنفيذه على الوجه الصحيح ، و لها سلطة تنفيذية تضبط كل ما يتعلق بإدارة البلاد ، مصر الحديثة فى هذا الدستور قوميتها عربية . و فى عام 1925 خرج للوجود كتاب فجّر مصر من الداخل هو كتاب «الإسلام و أصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق ، أثار الكتاب ضجة كبرى فى مصر و العالم العربى كله حيث جاء فيه «إن الإسلام لم يضع لنا شكلاً للحكم ، و لم تكن الخلافة فريضة و لكنها كانت تناسب عصرها فقط .. ليس المهم عندنا شكل الحكم و لكن المهم هو أن يحقق نظام الحكم الذى نتخيره مقاصد الشريعة». كانت الطامة الكبرى عند البعض أن الشيخ على عبدالرازق تطرّق للخلافة و نفى فرضيتها أو فريضتها , فقام الأزهر الشريف بسحب شهادة العالمية منه عقاباً له على رأيه ، و كتب عشرات الكتّاب منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا يحاولون تفنيد رأى على عبدالرازق و كتب العشرات أيضاً كتباً تؤيده فيما ذهب إليه . وضح من هذه المعركة أن مصر انقسمت فعلاً إلى فريقين فريق يقول : إن الخلافة فريضة و هى فريضة حتمية و لا خيار لنا فيها و لا حق لنا فى تبديلها و يجب أن تكون على شكل الخلافة الراشدة و هى خلافة ممتدة لا حدود لها و لا أرض و لا وطن ، أما الفريق الآخر فيقول : «ليس هناك شكل للحكم و نحن نعيش فى طن عربى نستمد عاداتنا و تقاليدنا من تاريخنا و مجتمعنا و لنا الحق فى أن ننشئ لأنفسنا نظام الحكم الذى يتوافق مع مصالحنا». انشغلت مصر سنوات بهذا الصراع و ما زالت ، و بعد سنوات قليلة من احتدام هذا الصراع و من اتجاه جمهرة من المتدينين بالفطرة و العاطفة إلى «وجوب دولة الخلافة» ظهر شاب درعمى صغير فى طور الشباب الأول وُلد فى مدينة المحمودية و سافر إلى مدينة الإسماعيلية البعيدة عن مدينته ليعمل بها مدرساً وفقاً لرغبته و اختياره ، و هناك حيث مجتمع يضم الموظفين الإنجليز و الفرنسيين الذين يعملون فى شركة قناة السويس و يضم أيضاً أغلبية مصرية من الحرفيين و صغار التجار و صغار الموظفين ، فى هذه البقعة المتنوعة يعلن الشاب الذى كان فى بداية العقد الثالث من عمره إنشاء جماعة دينية اسمها جماعة الإخوان المسلمين ، هدفها الأسمى هو «استعادة دولة الخلافة» لا تعترف بالوطن الذى نعترف به و تريد أن يكون وطنها هو الدين و ليس الطين ، و كان لهذه الجماعة الدور الأكبر فى قسمة المجتمع المصرى على خلفية عقائدية لم تكن هذه الجماعة بعيدة عن يد المخابرات البريطانية بل كانت فى قبضتها و ملك يمينها ، كانت كقطعة من قطع الشطرنج تحركها يد اللاعب و من بعدها تسلمت أمريكا الملف .