عادل الكلباني
لا مقارنة في الواقع الإسلامي بين ما كان و ما هو كائن ، و شتان بين من علموا فعملوا و فكروا فأبدعوا و سطروا الملاحم في كل أصقاع الحياة بجهودهم الجبارة ، و بين مَن يريد نقل ماضي الأجداد الذي كان حضارةً في آنِهِ و أسطورةً في زمانِهِ يريد نقله حرفًا بحرف دون النظر إلى معنى التقادم الزمني و الاختلاف الحتمي في مراقي الصعود الحضاري ، فقد أصبحت أفعال و أقوال كثير من الناس تُبنى على التأسف على الماضي و الإحباط من الحاضر ، فيقف موقف الناقد لكل ما لا يحسنه و يهدم ما يحاول الآخرون بناءَه نقدًا مُنطلقاً من نظرته السوداوية إلى واقعه ، فتراه يرهق ذهنه و يطوي ساعاته و لياليه مفتشاً عن ما يكون وجبة دسمة لقلمه و لسانه مما يظنه أخطاء للآخرين حتى وصل به الأمر إلى الغوص في لجج النوايا و بحار الظنون ، فيبني على الظن أحكاما و يتخذ من تلك الأحكام منهجاً و نظاما ، لم يعط لفكره مضمارًا ينطلق فيه بالإبداع ، و غاية إبداعه لذع الآخرين بسنان قلمه و لسانه ! و يتساءل الناظر من خارج الدائرة هل هذا قصور في الوارث أم في الموروث ؟ و الجواب الذي لا ريب فيه أن القصور ناجم ممن ورث و إلا فموروثنا الإسلامي غني بخامة الإبداع إذا أعملنا العقول و أحسنا التنقيب ، لكن بكل الأسف نقول إن هناك من لم يفهم معنى الإبداع ، و لذلك يقف على مراسيم و حروف وضعت قبل مئات السنين يشرحها و يفصلها ، و ربما شرح موضع الفاصلة بين الجملة و الجملة حتى غدا هجيّراه فلان أحلّ وفلان حرّم و كأن الدين في متون الأولين و ليس في الكتاب المبين ! نعود و نعطف على ما به بدأنا فنتساءل أين المبدعون المجددون لما اندرس ، الآخذون من الماضي ما يكون سلماً للصعود ؟ إننا و نحن نحاول تصحيح مسار هؤلاء فإننا أيضاً نحاول أن نرسم الطريق لمن يحاول تحرير عقليته من قيود التقليد الممقوت و نقول له لا يكن همك انتقاد مخالفيك ، و إن كان النقد حتما في كثير من الأحيان لمعرفة الخلل و السعي للإصلاح ، لكن يكفيك طرح كلمة الصواب و فتش في مواطن الإبداع فكم نحن بحاجة إلى المبدعين . إن هناك من يحاول إعاقة مسيرة الإبداع و يوقف عجلة التجديد و يحارب مساعي التغيير بحجة الخوف على الموروث و كأن الموروث لا يمكنه مواكبة التطور و الحضارة و النمو مع المتغيرات ، و التكيف مع التقنية و التعامل معها ، هؤلاء هم من عطل أهم ما يملكونه و هو عقولهم و أرخوا سُتُر الخمول على فكرهم . العاطل الذي لا يعمل شيئا و لكنه يسعى جهلا منه أو حسدا من عند نفسه ليرى المبدع مثله مكبلا في أصفاد الكسل و التقليد ، مؤجرا عقله لمن يفكر بالنيابة عنه و يظن أنه يمسك بالطرف الآخر من الحبل الذي يقوده به و يجره إليه و يتحكم فيه به . و العجيب أن معجزة هذه الأمة الكبرى معجزة محفزة للعقل , مثيرة للتساؤلات , داعية للنظر ، مثيبة على التفكر و التدبر . نحن بحاجة إلى إبداع فكري يخرج عن الروتين الممل الذي يدور في حلقة مفرغة ، إبداع استنباطي استدلالي ينأى بالسائرين إلى الله عن شطط الغلو و هاوية التفريط ، ففي الأدلة الشرعية من كتاب و سنة مُتسعٌ لإعمال العقول ، بل إن مما لا شك فيه أن قرآننا جاء ليفتح العقول و يعملها ، و ينشطها ، فلا حياة حقيقة بلا عقل ينظر و يفكر ، يتدبر و يخترع و يطوع ما في الكون المخلوق لأجله لراحته و ليسهل عليه أمر حياته بل و عبادته . أو لسنا نرى أنفسنا عالة على الناس نتلقف ما يخترعون و نتبع ما يقننون ، و نسير خلفهم نستفيد مما ينتجون في دعوتنا و عبادتنا ؟ الإبداع رباني فالله تعالى بديع السموات و الأرض ، فينبغي للمسلم أن يكون مبدعا ، منتجا ، فلقد فتحنا حين كنا مبدعين عقول العالم و مهدنا لهم طريق الخير في دنياهم و أخراهم بتفوقنا الماضي الساحق صنعنا ما لم يكن له في التاريخ نظيرا ، فكنا نفتح البلاد فنجذب أهلها إلى تعلم لغتنا و اعتناق ديننا ، و أخذوا منا عاداتنا و تقاليدنا . و في الوسائل المتاحة اليوم كما في الإعلام المعاصر من تلفزة و صحافة و انترنت و نحوها مجالٌ للعطاء ، و في قول الله " واعتصموا " ملتقى لكل الأطياف التي همها النهوض بالأمة و تجديد الطرح العلمي و العملي ، و ينبغي للعلماء و المفكرين و ذوي الكلمة أن يهيئوا المجتمع لقبول الطرح الإبداعي و التأقلم مع الأفكار التي من شأنها الرقي بالعقل المسلم ، و لا ينبغي لهؤلاء أن يغرسوا في أوساط المجتمعات المسلمة مبدأ الرفض الفكري ليس إلا لأنه يخالف عادة جرى عليها الناس ، أو يصادم فتوى روّج لها أهلها و أن الحق و الإتباع لا يكون إلا بإعمالها و الأخذ بها ! لقد آن الأوان للمسلمين عامة و علمائهم خاصة لإعطاء المساحة الكافية للطرح الإبداعي و اجتثاث جذور الإحباط من نفوس المقبلين على حاضر لا يرقى في سمائه إلا ذو فكر نيّر و عقل حر !
*نقلا عن "الرياض"