إبراهيم غرايبة
ثمة أسئلة و تقديرات بدهية تتشكل عند التفكر في قضية الجماعات و التنظيمات المسلحة مثل «القاعدة و «داعش» و هي تدور ببساطة حول قدرتها على اجتذاب المتطوعين و المؤيدين و الموارد المالية اللازمة للتجنيد و التسليح و القتال . و مهما علمنا أو خفي عنا من أمرها فإن ثمة حقيقتين واضحتين تكفيان للتحليل و الدراسة في شأنها و هما : التأييد الفكري لهذه الجماعات و الذي يصل لدى البعض إلى التطوع و القتال و الاستعداد للموت ، و الموارد المالية الكافية أو التي تغطي عملها إذ تقدر موازنة الدولة الإسلامية في العراق و الشام (داعش) وفق مصادر «سي أن أن» بملياري دولار . من أين و كيف تأتي هذه العزيمة و الأموال للقتال ؟ بطبيعة الحال فإن تقدير مسار هذه الجماعات و مستقبلها و قدرتها على العمل و التأثير مرتبطة بقدرتها على استقطاب التمويل و المؤيدين . بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كان السؤال ملحاً و شاغلاً العالم و لكن يبدو أن مشروع تجفيف منابع الإرهاب الفكرية و المالية تحول إلى عمليات اقتصادية و سياحية قليل منها حقيقي و جادّ و غالبيتها مؤتمرات و ندوات و مؤسسات و برامج فكرية و إعلامية يغلب عليها السطحية و التنفيعات الشِّللية و القرابية ، أو أنظمة ملاحقة و رقابة مالية و أمنية تحولت إلى ما يشبه القصة أو النكتة الليبية (في السبعينات) عندما أعلنت الحكومة عن مكافأة بدل كل عقرب يقتل ، فأنشأت المكافأة عمليات واسعة لتربية و تكثير العقارب ! يمكن اليوم أن نلاحظ بسهولة كيف أن الدول العربية الحديثة اقتبست النموذج الغربي في التحديث و لكنه تحديث منفصل عن متوالياته و شروطه ، ففي الغرب كانت الثورة الصناعية في أهم جوانبها و تجلياتها متوالية من الموارد و الأسواق الجديدة ، و أنشأت هذه مدناً وطبقات و نخباً جديدة ، و في هذا الصراع بين النخب و الطبقات تشكلت التعددية السياسية و الثقافية و ترسخت الديموقراطية و سيادة القانون لأجل تنظيم سلمي لهذا التنافس و الصراع . هكذا تحولت الوفرة الجديدة في الموارد و المعارف إلى منظومة اجتماعية و ثقافية جديدة ، سيادة القانون و المساواة التامة بلا استثناء أمام المحاكم ، و نهاية الاحتكار الطبقي للسياسة و الامتيازات الاقتصادية و الحق الإلهي المزعوم لفئة من الناس ، و تشكل معنى جديد للحرية لم تعد الكلمة للمرة الأولى في تاريخ البشرية كما نعلم مصطلحاً قانونياً يعني عكس العبودية و الرقّ . في السعي الحتمي والتلقائي للإنسان بعد أن يحل مشكلة البقاء و يملك وفرة من الطعام و الوقت تسمح له بالتفكير يبحث عن المعنى و الجدوى ، و لعلهما (المعنى و الجدوى) كلمتا السرّ في ما جرى و يجري منذ إقامة الدولة الحديثة، فلا يمكن أبداً مع تطوير المدارس و المؤسسات و وفرة المعرفة و الموارد إلا أن يبحث الناس عن المعنى و الجدوى . لماذا لم تنشئ الوفرة في المعرفة و الوقت و الموارد متوالية من التطور السياسي و الاجتماعي و الثقافي كما حدث و يحدث في التاريخ و الجغرافيا ؟ هي بدلاً من ذلك أنشأت متوالية مضادة من التسلط و القهر و غياب الحيلة ، لأنه و ببساطة لا يمكن حماية هذا التحديث إلا بمنظومة اجتماعية و ثقافية جديدة ملائمة من المدن و المجتمعات التي تجد المعنى و الجدوى في الارتقاء بنفسها و حريتها . فلا يمكن أن يذهب الناشئة إلى المدارس و الجامعات و يتواصلون مع العالم و يعرفون كل شيء ، ثم تواصل النخب السياسية و الاجتماعية وهمها بالقدرة على السيطرة و مواصلة الاحتكار و الامتيازات و رفض المشاركة و الحريات و المساواة . شغلت الدول مواطنيها برواية الاستقلال و التحرير و لكنها رواية انهارت بفعل هزيمة 1967 فكانت الجماعات الإسلامية بمختلف أطيافها و مصادرها في الفكر و التجميع رواية جديدة ، و لكنها حيلة انقلبت على الساحر كما انقلبت عام 67 حيلة القومية و التحرير على أصحابها . اليوم لا مجال في مواجهة الجماعات الدينية و المتشدة و المسلحة سوى أمرين : المشاركة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية الواسعة للمجتمعات و الناس ليقرروا مصيرهم أو أن يعود الناس رعاة و صيادين و جامعي ثمار لا يملكون من الوقت إلا لتأمين بقائهم !
* نقلا عن "الحياة"