
ممدوح المهيني
منذ  عام 1950 ، تغير العالم الذي نعرفه . قبل ذلك التاريخ وعلى مدى أربعة  عقود ، كان حجم الإنتاج العالمي يرتفع بمعدل 1 في المائة سنوياً . ولكن منذ  عام 1950 ارتفع بمعدل 4 في المائة , تراجعت معدلات الفقر ، وخرج مليارات  البشر من بؤسهم . قبل  عام 1950 كانت الحروب لقرون حالة طبيعية ومتكررة , وشهد النصف الأول من  القرن العشرين حربين مدمرتين ، هما الحربان العالميتان , لكن منذ عام 1950 تراجعت معدلات الحروب بين القوى العظمى . لقرون كان الفقر هو السائد ، وكانت  الحروب لا السلام هي الحالة المستمرة . ما الذي حدث وتغير ؟ ولماذا شكل  عام 1950 منعطفاً مفصلياً في التاريخ ؟ يقول  المفكر السياسي روبرت كاغان في كتابه «العالم الذي صنعته أميركا» إن السبب  يعود إلى النظام الأميركي الذي شيدته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية  الثانية . لكن هل يمكن أن يكون هناك سبب آخر؟ أي أن ما يحدث هو نتيجة طبيعية للتطور  الإنساني في العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد العالمي ونمو المؤسسات الدولية ؟  هل من الممكن أن ما ننعم به من سلام وازدهار اقتصادي هو تتويج لصعود جنسنا  البشري ؟ إن الإنسان نزع العنف من داخله واستبدل به مشاعر السلام ؟ إن  الوحشية حلت محلها المدنية ، والقومية الشوفينية تراجعت لصالح قيم العالمية ؟  هل وصلت البشرية إلى هذه القناعة واختارت أن تكون مسالمة ، من دون حاجة  إلى قوة أو نظام دولي يفرض معايير معينة ؟ يرد  كاغان على هذا التساؤل بالنفي , يقول إن أميركا كدولة ليبرالية ورأسمالية ,  هي من شكّل العالم على هذه الصورة ، وحمت النظام الدولي الذي نعيش في ظله .  وإن انهيارها أو تخليها عن هذا الدور - كما تتزايد المطالبات بذلك من  داخلها من قبل ساسة ومؤثرين - سيؤدي إلى صعود نظام آخر يعكس قيم ومصالح  القوة التي ستخلفها . تاريخياً عندما تنهار قوة عظمى ينهار معها النظام الذي شيدته , عندما انهارت  الإمبراطورية الرومانية ، انهار النظام السياسي والاقتصادي الذي بنته. يقول  كاغان إنه حتى الثقافة والفنون والتطور العلمي تراجع لقرون . انهيار النظام  الأوروبي مثال آخر , فطَوال أربعة عقود تطور هذا النظام الدولي . ورغم كل  عيوبه : الاستعمار، والإمبراطوريات ، والحروب المتكررة ، إلا أنه وفر مستوى  من الأمن مكن من التطور الإنساني . فقد أسهم توازن القوى في أوروبا ، إلى  جانب قوة الأسطول البحري البريطاني ، في ازدهار الاقتصاد وتعزيز الحريات .  انتعشت التجارة ، وازدهرت ثورة الاتصالات . وفر هذا النظام قدراً من السلام ،  امتد لأربعة عقود بعد الحروب النابليونية ، وأربعة عقود أخرى بعد حروب  توحيد ألمانيا . المتفائلون  آنذاك هتفوا : نعيش فجراً جديداً في التاريخ الإنساني , الطبيعة البشرية  بلغت ذروتها الحضارية , الحروب والديكتاتوريات أصبحت من الماضي , لكن بعد  سنوات قليلة تحطمت هذه الآمال . اندلعت الحرب العالمية الأولى ، وانهار  السلام ، وتمزقت الحضارة الليبرالية الأوروبية . ازدهرت القوميات المتطرفة ،  والآيديولوجيات العرقية ، والأنظمة التوتاليتارية . تراجعت الدول الليبرالية  وأصبحت مهددة من تحالف القوى الحديدية : الفاشية والنازية التي كانت تحلم  بفرض نموذجها ونظامها على العالم , لم  يمضِ وقت طويل حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية . يطرح كاغان سؤالاً :  ماذا لو انتصرت ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية ؟ من المؤكد أنهما  كانتا ستفرضان كما تفعل جميع القوى العظمى ، نظاماً وقيماً تعكسان  مصالحهما . والسؤال الآخر : ماذا لو انهار النظام الأميركي الذي نعيش في ظله ؟  ماذا يمكن أن يحدث بعدها ؟ لكن قبل أن يجيب عن هذا السؤال يتوقف عند سؤال  أساسي : ما الذي يميز النظام الأميركي عن غيره ؟ وما النظام الذي سيحل مكانه  إذا تحطم وتلاشى ؟ عبر  التاريخ ازدهرت وانهارت أنظمة عالمية ، وكل نظام منها ترك بصمته . النظام  الصيني ، والروماني ، والإغريقي ، والإسلامي ، والعثماني ، كلها فرضت نماذجها  عبر القوة . وفي عصرنا الحديث ، فإن القوة الأميركية تشكل بصمتها الواضحة على  العالم من خلال منظومة قيم محددة : الليبرالية ، والازدهار الرأسمالي ، ومنع  الحروب الكبرى ، والمحافظة على السلام ، وثورة الاتصالات والنقل والتقنية . لكن من دون قوة عسكرية ضخمة تحمي هذا النظام ، فإن القيم التي نعيشها اليوم ستكون مجرد أمنيات وتصورات موجودة في الكتب . وفي  منطقتنا يبدو المشهد مشابهاً , فالنُظم المتطرفة والميليشيات الخارجة عن  القانون نشرت الحروب ، ورفعت معدلات الفقر، وأضعفت الدولة الوطنية ، وزادت  الانقسامات الدينية . في المقابل هناك دول معتدلة تستثمر في السلام  والتنمية والانفتاح الاقتصادي . إنه صراع بين نظامين ، كل منهما يسعى لفرض  قيمه ومعاييره . وفي النهاية ، فإن القوة - لا الطبيعة البشرية - هي من تحمي  أي نظام منهما .
 تعليق : الفكرة روعة و تزيد الرؤية وضوح على أي جانب يجب أن تقف ؟ صحيح موقف امريكا ضد مصالح العرب كونها تدعم اسرائيل , لكن شوف في الجانب المقابل ايش قدمت للبشرية ؟ بينما تخيل قوة شريرة مثل ايران أو كوريا الشمالية أو روسيا أو اسرائيل هي اللي مسيطرة كيف راح يكون حال العالم ؟