21-11-2017 , 11:12 PM | مشاركة رقم 1 |
إداري
تاريخ التسجيل : Nov 2012
رقم العضوية : 2
المشاركات : 5,360
أخر زيارة : يوم أمس 07:43 PM
الدولة : قطر
|
إطلالة بانورامية على الفكر الفرنسي
يمكن القول منذ البداية إن الفكر الفرنسي شغل العالم في القرن العشرين مثلما شغله الفكر الألماني في القرن التاسع عشر . فمعظم المدارس الأدبية و الفلسفية ظهرت في فرنسا أو انتعشت فيها . نضرب على ذلك مثلاً الفلسفة الوجودية ، و الفلسفة البنيوية ، و الفلسفة التفكيكية ، إلخ . و حتى فيما يخص الأدب و الفن ، نلاحظ أن فرنسا هي التي صدرت للعالم معظم الصرعات الفنية و الجمالية ، كالدادئية ، و التكعيبية ، و السريالية ، و مسرح العبث أو اللامعقول ، إلخ . و يمكن القول إنه إذا ما حذفنا أسماء أندريه بريتون ، و بيكاسو ، و سلفادور دالي ، و رينيه شار ، و أراغون ، و هنري ميشو ، و جان جنيه ، و جان بول سارتر ، و ألبير كامو ، و كلود ليفي ستروس ، و بول ريكور ، و ميشيل فوكو ، و رولان بارت ، و بيير بورديو ، و جاك دريدا ، و جيل ديلوز ، و كاستورياديس ، و إدغار موران ... فإن الفكر العالمي سوف يخسر الكثير . و لا ينبغي أن ننسى بيرغسون و غاستون باشلار ، و آخرين كثيرين نعتذر عن ذكر أسمائهم التي لا تقل أهمية . و يمكن القول أيضاً إن الفرنسيين شغلوا العالم مرتين هذا القرن : مرة أولى أيام سارتر و الوجودية ، و مرة ثانية أيام فوكو و ديلوز و ليفي ستروس و البنيوية . و لا ينبغي أن ننسى مدرسة الحوليات الفرنسية التي هي من أشهر المدارس التاريخية في العالم . و قد قلب أقطابها من لوسيان فيفر إلى فرنان بروديل و جورج دوبي و جاك لوغوف و آخرين منهجية البحث التاريخي رأساً على عقب . و هذا ما نحتاجه حالياً في العالم العربي إلى أقصى حد ، فهذه المناهج التحريرية ضرورية لتفكيك الانغلاقات اللاهوتية المتحجرة التي أوصلتنا إلى «داعش» أخيراً . نحن بحاجة إلى المنهجية التفكيكية ، و منهجية الحفر الأركيولوجي في الأعماق ، إذا ما أردنا أن نشفى من أمراضنا التراثية و التكفيرية الدفينة . فالقصة أكثر خطورة مما تظنون ، و الداء مستفحل عضال ، «و آخر الدواء الكي» كما تقول العرب . و لا يتوقع أن نخرج من المغطس عما قريب . و لا ينبغي أن ننسى الفيلسوف بول ريكور الذي رحل عام 2005 عن عمر طويل يناهز الثالثة و التسعين . كان ذلك في قرية «شاتني مالبري» الواقعة جنوب باريس التي عشت فيها عدة سنوات متواصلة عندما كنت طالباً جامعياً ، بوهيمياً ، متوحشاً ... و لكن ما كنت أعرف أن بول ريكور كان جاري ! و هي بالمناسبة قرية فولتير أيضاً لأنه ولد فيها . و لذلك ، فإن تمثاله الضخم هو أول ما يستقبلك على مدخلها الجميل . و كثيراً ما كنا نشرب قهوة الصباح في مقهى فولتير مستمتعين بمنظر الحسناوات الداخلات الخارجات كخلية النحل دون توقف . على أي حال لقد خلف بول ريكور وراءه مكتبة كاملة من المؤلفات و البحوث العميقة . و معلوم أنه كان فيلسوفاً و مؤمناً في الوقت ذاته . و هذا شيء نادر في الغرب لأن كلمة الفيلسوف هناك أصبحت تعني بالضرورة الشخص الملحد الذي لا يعترف بوجود أي شيء خارج الواقع المادي المحسوس . و لكن بول ريكور لم يكن يخلط بين إيمانه الشخصي و الفلسفة ، فهو يقول إن للفلسفة مجالها و للدين مجاله ، و لا يجوز الخلط بينهما . و قد اعترف بأن اطلاعه الواسع على الفلسفة ساهم في تعميق إيمانه ، لا إزالته و لا تنقيصه . فالإيمان الذي يجيء بعد تفكير ناضج و دراسات معمقة أهم من الإيمان الساذج أو السطحي الذي قد يتحول إلى جهالة فكرية أو تعصب أعمى . و بالتالي , فهناك علاقة جدلية بين العلم و الإيمان ، أو بين الفلسفة و الدين . إن بول ريكور الذي عاش بين عامي (1912 - 2005) شارك في معظم المعارك الفلسفية التي دارت رحاها في القرن العشرين . فقد اصطدم مع سارتر و وجوديته في الخمسينات . و عندئذ ، نعته سارتر بأنه خوري يتفلسف ! و هي عبارة احتقارية جداً لا تليق بسارتر , و لكنها صادرة عن فيلسوف وجودي ملحد في المطلق ، كاره للدين و المتدينين في آن معاً . ثم اصطدم بول ريكور مع كلود ليفي ستروس و بنيويته في الستينات ، و جرت بينهما مناظرة عميقة جداً على صفحات مجلة «اسبري» الفرنسية ، أي الروح أو الفكر . كما انخرط في مناظرات معمقة مع الماركسيين و التحليل النفسي ، و سوى ذلك من المدارس الفكرية و التيارات . و أعتقد أن فكر بول ريكور يساعدنا كثيراً على حل مشكلتنا التراثية. فوكو : عبقرية الجنون أو جنون العبقرية أما ميشيل فوكو الذي عاش عمراً قصيراً (1926 - 1984) فقد اشتهر بعدة كتب أساسية ، نذكر من بينها : «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» (1961)، و «الكلمات و الأشياء» (1966)، و «المراقبة و العقاب» (1975). و قد جدد الفكر الفرنسي و الأوروبي كله بهذه الكتب المفصلية الشديدة الابتكار و الجدة . فقد درس العلاقة الجدلية الكائنة بين العقل و الجنون على مدار أربعمائة سنة من تاريخ الحضارة الغربية ، أي منذ القرن السادس عشر حتى اليوم . و برهن على خطأ الوهم الشائع الذي يقول إن العقل كله يقع في جهة و الجنون في الجهة الأخرى , و لا اختلاط بينهما . و أثبت أن كل واحد منا فيه حبة جنون حتى لو كان عاقلاً جداً ! كما برهن فوكو على أن نظرة الناس إلى الجنون في القرون الوسطى كانت مختلفة عن نظرتنا نحن إليه , و قل الأمر ذاته عن القرن السادس عشر و ما تلاه . و بالتالي فكل عصر يشكل تصوره عن هذه الظاهرة التي ترعبنا للوهلة الأولى : أقصد ظاهرة الجنون . ثم ختم فوكو كتابه بثناء حار على جنون العباقرة ، من أمثال هولورلين ، و نيتشه ، و أنطونين أرتو ، و جيرار دونيرفال ، و غويا ، إلخ . و قال إن جنون العباقرة هو الذي يحق له أن يحاكم العقل الغربي الاستعماري المتغطرس ، و ليس العكس . فلا يوجد أي عقل في العالم يستطيع أن يرتفع إلى مستوى هيجانات فريدريك نيتشه أو أنطونين أرتو و هولدرلين . و هكذا تحدث فوكو بلهجة رومانسية و شاعرية جداً عن هؤلاء المجانين الكبار الذين أتحفونا بالروائع الخالدة ، و لكنه اعترف بأن الجنون يضع في النهاية حداً للإنتاج و الإبداع . فنيتشه ، بعد أن جن لم يعد قادراً على تأليف كتب عبقرية كما في السابق ، بل لم يعد قادراً على كتابة سطر واحد , لقد صمت صمت القبور بعد أن هزنا و زعزعنا و زلزلنا ، و لا يزال صوته يدوي في أرجائنا حتى اللحظة ! و أما هولدرلين ، فوضعه مختلف لأنه لم يجن دفعة واحدة كنيتشه ، و إنما على دفعات ... و لذا , ظل يخربش على الورق بعضاً من أجمل القصائد قبل أن يسكت بشكل نهائي . نعم لقد كتب في الفترة المترجرجة ما بين العقل و الجنون مجموعة كاملة لا تقدر بثمن . انظروا : «قصائد الجنون لهولدرلين» بترجمة الشاعر الفرنسي بيير جان جوف . و بالتالي ، فالجنون إذا ما انتصر على العقل يعني نهاية النهايات ، و لكن بعض جرعات الجنون مفيدة للإبداع بشرط ألا تزيد عن حدها . بالمناسبة ، هل تعلمون أن هيدغر طلب أن يقرأوا على نعشه قبيل الدفن بعض أشعار هولدرلين ؟ و يبدو لنا من خلال كتاب فوكو أن المجتمع القمعي هو المسؤول عن جنون العباقرة ، و ربما غير العباقرة . و هذا الكلام يتوافق مع رأي أنطونين أرتو الذي جن في نهاية المطاف كما هو معروف . فقد اتهم المجتمع «الإرهابي» بالمسؤولية عن جنون جيرار دونيرفال و شارل بودلير و رامبو و فيرلين و سواهم كثيرين . انظروا كتابه الشهير الرائع ، الصادر عام 1947 قبيل موته بقليل تحت عنوان بارز شديد الدلالة و المغزى : «فان غوخ و انتحار المجتمع». ففيه يصب جام غضبه على المجتمع الفرنسي الذي جنن فان غوخ و دفعه دفعاً إلى الانتحار . و فيه يقول ما معناه : «لا ، لم يكن فان غوخ مجنوناً ، و إنما المجتمع نفسه هو المجنون , إنه مجتمع بلا شفقة و لا رحمة ، مجتمع عاجز عن فهم العباقرة الكبار بكل همومهم و معاناتهم . فلوحاته نيران يونانية ، قنابل ذرية ! ينبغي العلم أنه داخل كل مجنون يوجد شخص عبقري غير مفهوم . و الفكرة التي تلمع في رأسه تخيف الآخرين . و لذلك يحاصرونه ، بل و يسجنونه في المصحات العقلية حتى يجن تماماً . ثم يردف أنطونين أرتو ، قائلاً : المجنون هو إنسان لم يرد المجتمع أن يسمعه ، بل و منعه من الكلام و قمعه خوفاً من أن يتفوه بحقائق هائلة لا تحتمل و لا تطاق ، حقائق مزلزلة للمجتمع بأسره . بعد أن نقرأ كلام أرتو المعذب و صرخاته المدوية لا نملك إلا أن ننحني أمام معاناته النفسية الهائلة . و هذا ما فعله فوكو في كتابه الشهير , من هنا جاذبيته التي لا تقاوم . و معلوم أن فوكو ذاته كان على حافة الجنون ، و لم ينج من السقوط في حمأته إلا بعد أن نجح في تأليف أجمل كتاب عن تاريخ الجنون ... باختصار : تداويت منها بها , و داوني بالتي كانت هي الداء ... ربما كان فوكو يريد أن يقول لنا : كل عبقري مجنون ، و لكن ليس كل مجنون عبقرياً ! جان بول سارتر : الفكر كعلاج أما القطب الأساسي للفلسفة الفرنسية المعاصرة فهو دون شك جان بول سارتر . و من المعلوم أن سارتر (1905 - 1980) سيطر على كل مثقفي فرنسا طيلة ما لا يقل عن ثلاثين سنة متواصلة . فمنذ صدور كتابه الشهير «الوجود و العدم» عام 1943 حتى موته عام 1980 ، ما انفك يشغل واجهة الأحداث المحلية و العالمية . و لكن البنيوية على طريقة كلود ليفي ستروس و ميشيل فوكو و بارت و سواهم أنزلته عن عرشه و كبريائه ، بدءاً من أوائل السبعينات . فقد بدا لأول مرة قديماً بالياً في نظر الشبيبة الفرنسية التي أصبحت مسحورة بالمنهجية البنيوية و العلوم الإنسانية , و شحب بريق الوجودية عندئذ . و هذه هي حال الدنيا , يوم لك ، و يوم عليك , و لا تدوم لأحد . و لكن ينبغي أن نعود إلى الأربعينات و الخمسينات من القرن الماضي لكي نفهم عظمة سارتر ، و ندرك حجم شهرته و إبداعه و طغيانه على الساحة الثقافية ، فقد أعطى للشبيبة الفرنسية أملاً جديداً بعد أن خرجت فرنسا منهكة محطمة من الحرب العالمية الثانية . و يمكن القول إنه فعل الشيء ذاته الذي فعله أندريه بريتون بعد الحرب العالمية الأولى . ففرنسا عندئذ ، خرجت أيضاً محطمة من أكبر مجزرة في التاريخ . و كان الشباب يائساً عاجزاً عن الإيمان بأي شيء . عندئذ ، قدم له أندريه بريتون الفلسفة السريالية كحل أو كعلاج عام 1920 ، مثلما قدم له سارتر الفلسفة الوجودية كحل و علاج بعد عام 1945 . في كلتا الحالتين ، كانت الشبيبة الفرنسية بحاجة لأن ترفه عن نفسها ، لأن تنسى همومها ، لأن تؤمن بشيء ما يعصمها من الانهيار و الجنون ، بعد أن فقدت كل أمل بسبب الحرب و مآسيها و فواجعها . لم يبق بيت إلا وكان فيه فقيد أو جريح أو قتيل أو معطوب . كل فرنسا كانت مفجوعة ، و كل ألمانيا أيضاً . و لا يمكن أن نفهم سبب الانتشار السريع للسريالية بعد عام 1920 ، و الانتشار الكبير للوجودية بعد عام 1945 ، إلا إذا أخذنا هذه المعطيات الاجتماعية و السياسية بعين الاعتبار . فالأدب هو ابن عصره و ظروفه في نهاية المطاف ، و كذلك الفكر و الفن و الفلسفة . كل شيء مرتبط بالعصر و الظروف . هل يمكن أن نفهم الأدب العربي الحديث ، و كذلك الفكر العربي دون هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 ؟ كل ما فعله المثقفون العرب منذ خمسين سنة كان عبارة عن رد فعل عليها . و الآن ، اسمحوا لنا أن نطرح هذا السؤال : من يستطيع أن يكتب النص العربي القادر على أن يرتفع إلى مستوى التراجيديا العربية الراهنة ؟ أين هو بريتون العربي أو سارتر العربي أو صموئيل بيكيت العربي ؟ و لكن السؤال مطروح بشكل خاطئ في الواقع , فنحن لسنا بحاجة إلى بريتون و بيكيت و كل مسرح العبث و اللامعقول . نحن بحاجة إلى فولتير العربي و ديكارت العربي و كانط العربي . نحن بحاجة إلى بول ريكور عربي يعرف كيف يصالح بين الإيمان و العقل ، أو بين الدين و الفلسفة . باختصار شديد , نحن بحاجة إلى الأنوار العربية لكي تنقذنا من جحيم الظلمات العربية , نقطة على السطر ! |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
معركة التنوير الفرنسي | البرواز و الصورة | المنتدى الثقافي | 0 | 17-12-2017 01:28 AM |
جورج طرابيشي و وحدة الفكر العربي | البرواز و الصورة | المنتدى الثقافي | 0 | 20-03-2016 08:45 PM |
الفكر القومي العربي | البرواز و الصورة | المنتدى الثقافي | 0 | 08-08-2013 02:19 PM |
لماذا فشل فكر ابن رشد في السياق الإسلامي ؟ | البرواز و الصورة | المنتدى الثقافي | 0 | 22-07-2013 01:28 PM |