
فهد سليمان الشقيران
في حومة الأحداث الثورية ليست كل الشعارات عقلانية ، و إنما يخلق التداعي  الجماهيري تلقائياً مناخات مشحونة بالطموحات و الأحلام ، قد تنفرج العقد ،  و أحياناً يبدو الواقع السيء أكثر تمكناً و تغلغلاً . ليست النهاية أن  يستقيل الحريري و لا أن تأتي حكومة أخرى بصفاتٍ مختلفة ، و إنما الرهان على  تغيير طريقة الحكم من المحاصصة الطائفية إلى نظامٍ مدني علماني ، به تتجه  الدولة بناسها نحو المساواة و قوة الفرد بدلاً من التركيب الطائفي و الانضواء  خلف الزعيم . إن الانتقال من «حالة الطبيعة» الذئبية بين البشر إلى مفهوم  الدولة و نظامها من أعظم ما أنجز في التاريخ ، و ذلك بعد قرونٍ من الاقتتال  و الدم منذ الحرب الأهلية الانجليزية التي عاصرها توماس هوبز و إلى الحروب  الدينية و إضافات روسو و كانط و راولز ، و الاقتراب من مشاعر التناحر و الاقتتال  أقرب لحالة الطبيعة منها لمفهوم الدولة ، ببساطة كيفية وضع عقد اجتماعي راسخ  يحقق الحريات و يحدد الواجبات . ارتفع  سقف مطالب المتظاهرين بلغ حد المطالبة بتنحية رئيس الجمهورية ، و أياً كانت  المآلات فإن الحدث اللبناني تأخر كثيراً ، على الأقل برفع صوت احتجاج على  الأوضاع القائمة ، و إطلاق صرخة بوجه الزعامات التاريخية المغرورة و الفاسدة  و المنهارة و المتآكلة . الطريق وعرة ، و مابني في ثلاثين سنة يصعب هدمه في  ثلاثين يوما ، و إنما يستعان بهذه الأحداث و آثارها على تغييرات محورية في  النظام السياسي ، و إحداث هزة تاريخية يبنى على إثرها نظام أكثر إحكاماً  و أقرب إلى مفهوم الدولة ، ليست الفكرة في استقالة حكومة و مجيء أخرى ، و إنما  في بناء دستوري جديد يحرر لبنان من أغلال الطائفية و قيودها . هناك في  وسط الأحداث يهتف العديد بتجربة السعودية و تحديداً باسم ولي العهد الأمير  محمد بن سلمان ، يتمنون تحقيق حملة ساحقة على الفساد كالتي قادها الأمير ،  و هذا مجرد فصل واحد من كتاب التطوير ، من مثل هذه التجارب تتعلم المجتمعات  كيف تصنع الدول نماذجها الساحرة للأقربين و الأبعدين . يحلم العرب  برؤيةٍ كالتي رسمها الأمير محمد بن سلمان ، في البرامج المتنوعة و ساحات  الاحتجاج بلبنان و حتى العراق يطالب الناس بالقبض على الفاسدين ، من يصدق أن  بلداً مثل لبنان يعاني من هذا المأزق الاقتصادي المدمر , رغم توفره على  إمكانيات مهولة يمكنه الاستناد عليها لتحقيق اقتصاد ناجح ، و العجب أن الصراع  على النفط و ربما التخطيط لاقتسامه قد بدأ أو انتهى قبل التنقيب عنه ، هذه  مهزلة تاريخية كان على اللبنانيين الاحتجاج عليها منذ عقود . قبل  استقالة الحريري ساد العناد السياسي ضد مطالب المحتجين و هذا يفسر ضعف  المؤسسة الديمقراطية في لبنان ، عناد الذهنية المستبدة ، ما الفرق بين طاغية  يقول أحكمكم أو أقتلكم كما فعل القذافي و بشار الأسد و صدام حسين . في  لبنان هناك من يعتبر نفسه الأجدر بحكم البلاد ، أو المتفضل على الناس  بعبقريته في إدارة الدبلوماسية و ملفات الخارجية ، بل قد يدعي حقه الأوحد  بالسلطة في لبنان و شرعية الانفراد بها ، و بالتالي فإن المحتجين مجرد هوامش  لا قيمة لهم في التداول الديمقراطي . في عام 1993 طرح المفكر اللبناني  فؤاد إسحق الخوري كتاباً بعنوان : «الذهنية العربية - العنف سيد الأحكام»  فيه يحلل اللعب و الآيديولوجيا ، و قد كتبتُ عن تفسيره للفرق بين لعبة طاولة  الزهر و الشطرنج , في الأولى تصور لا هرمي للكون و المجتمع أحجارها متساوية  القيمة ، بينما الشطرنج تختلف أحجارها بالقيمة . و هذه تشرح المشكل  السياسي الأساسي في الصراع بين الزعامات و إنتاجها لعلامات اجتماعية خطيرة ،  يورد فؤاد ملاحظة مهمة عن لبنان : «انشلت قوى الأمن الوطني بفعل الاقتتال ،  و ضعفت قدرة الدولة المركزية على السيطرة على الوضع الأمني ، فقامت إثر ذلك  حركات و تجمعات و تنظيمات محلية شبه عسكرية (ميليشيات) تؤدي وظيفة الأمن ،  تدافع عن مناطق سكنها و تحميها من الاعتداءات الخارجية المحتملة ، كما و أنها  كانت تؤمن للناس بعض الخدمات المعيشية الخاصة . و في سنة 1980 و بمساعدة بعض  الطلاب في الدراسات العليا في الجامعة الأميركية ، استطعت أن أحصي نحو 32  مجموعة من هذه التنظيمات المحلية المنتشرة في كل أنحاء المدينة . غير أن هذه  التنظيمات شبه العسكرية لم تكن لتبرز هكذا بطريقة عشوائية ، و إنما جاءت  لتعكس البنية الاجتماعية بالذات ، كان كل تنظيمٍ يقوم بالأساس على الروابط  العصبية التي تجمع بين الأعضاء». أزمة لبنان تعكس الخلل في مفهوم  الدولة من جذره ، أمر يعزوه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري إلى خلل في  «تكوين العرب السياسي»، كما بعنوان كتابٍ أساسي له ضم عدة أبحاثٍ في مأزق  تصور تكوين الدولة ، و المفاجئ أن لبنان لا يفشي عن آلامه السياسية فقط ،  و إنما يطرح معضلة نظرية للمثقفين المتمسكين بالديمقراطية بوصفها مقدمة لكل  تنمية ، و هذا تصور ساذج واهم . اليوم تتفوق نماذج خليجية على رأسها  السعودية ، و تحتل مراتب متقدمة بالنمو الاقتصادي و القضاء على الفساد . يصح  على الحدث اللبناني قول نورينا هرتز في كتابها : «السيطرة الصامتة -  الرأسمالية العالمية و موت الديمقراطية»: «قد لا يكون من الغرابة أن يدير  جمهور الناخبين ظهورهم لسياساتٍ تقليدية حتى في بلدانٍ تعلن أن الديمقراطية  هي واحدة من أعظم إنجازاتها ، عندما تكون الحكومات في ضعف مطرد ، غير مستعدة  أو غير قادرة أن تتدخل إلى جانب مصالح مواطنيها ، و فاقدة كما يبدو لأي  إحساسٍ بالغاية الأخلاقية».
تعليق : قد يتسأل البعض ماذا يفعل هذا المقال عن استقالة الحريري في القسم الثقافي ؟ الجواب هو لا تدع العنوان يضللك , يوجد عدة افكار و اسماء كتب لها علاقة بطريقة تفكير العرب بمفهوم الدولة و الديموقراطية و الاستبداد . كما يوجد اسماء فلاسفة تخصصو في بناء الدولة و مفهوم العقد الاجتماعي . لذلك اعتقد أن القارئ الكريم راح يستفيد فكريا" و معلوماتيا" من هذا المقال رغم تحفظي على بعض الامثلة عن الامير محمد بن سلمان و السعودية كنموذج لمحاربة الفساد . بس هذا شي هامشي من كاتب سعودي يحب أن يشيد بالامير و لا يؤثر على قيمة المقال و فائدته . الشقيران كاتب مميز احترمه و احترم فكره .