أمير تاج السر
حتى ست سنوات مضت، لم يكن معظمنا يعرف الكثير عن جائزة مان بوكر البريطانية بالرغم من أنها جائزة كبرى وذات ثقل مادي ومعنوي كبير في أوروبا، ويخوضها كبار الكتاب أو الكتاب المخضرمون سنويا جنبا إلى جنب مع المبتدئين الذين ربما يدخلونها برواية أولى فيكسبون الجائزة ويصيرون أعلاما بعد ذلك.
حدث ذلك مع الهندية 'أرونداتي روي' التي فازت بالجائزة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي عن روايتها 'إله الأشياء الصغيرة'، وأيضا الهندي 'أرافيندا أديغا' في روايته 'النمر الأبيض'، التي فازت في الألفية الجديدة، وكثيرون غيرهما ممن صاروا أعلاما في مجال الكتابة بعد ذلك.
فالجائزة لها شروطها الواضحة المعلنة وهي أنها تتعامل مع نص، بقطع النظر عن كون كاتبه مغمورا أو مشهورا، ويستوي أمام لجنة التحكيم نص كتبه 'كويتزي' أو 'نادين غورديمر' مع نص ربما يكتبه هاو في عشرينيات العمر يتفوق به على نصوص الكبار.
وبالنسبة للجان تحكيم تلك الجائزة، لا يشترط أيضا وجود محكمين مدججين بالأبحاث وشهادات النقد والتدريس الجامعي، وإن وجدوا يكونون من ضمن فريق، ربما يرأسه أحدهم وربما يرأسه كاتب روائي لا يحمل سوى شهادة الإبداع.
ولأن جائزة مهمة كتلك، هي في الحقيقة بوابة عريضة للشهرة والترجمة إلى لغات أخرى وتحقيق أرقام قياسية في توزيع الكتب، فنادرا ما تجد كاتبا يقاطعها ولا يركض في 'مارثونها' السنوي.
الجائزة بمعاييرها تلك خصصت فرعا للأدب العربي الذي هو أيضا أدب خاص جدا له كتابه ونوابغه ويحق له أن يحظى بجائزة كتلك، ومن ثم أنشأت الجائزة العالمية للرواية العربية، أو بوكر العربية برعاية مان بوكر البريطانية، ولكن بمجلس أمناء منفصل وتداعيات منفصلة ستجعل كتاب العربية مهووسين بمحاولة اقتناصها في كل موسم. وهناك من يكتب بشكل عادي كما كان يفعل دائما، ويترك نصه يركض في المنافسة عله يصل، وهناك من يكتب خصيصا للجائزة على أمل أن يكسب.
إذا ألقينا نظرة سريعة على ما حققته الجائزة العالمية للرواية العربية في مواسمها التي انقضت، نجد الكثير من الإيجابيات التي ما كنا سنمسك بها لولا تلك الجائزة، وأيضا الكثير من السلبيات التي كانت من توابعها. هناك مديح عظيم لها من أولئك الذين حققت نصوصهم نصرا، سوى بالفوز بها أو بوصول قوائمها القصيرة التي هي أيضا نصر إلى حد ما.
وبالمقابل نجد هجوما ضاريا من أولئك الذين كانوا يعتزون بنصوصهم، وفرشوا على صفحاتها آمالا عريضة. وكثيرون خاصة من الكبار الذين لم يحظوا بالتفاتة من لجان التحكيم إلى نصوصهم، اعتبروها جائزة سيئة وعميلة، وبعضهم قاطعها تماما.
لقد كانت الدورة الأولى التي فاز فيها القدير بهاء طاهر بروايته 'واحة الغروب' موفقة جدا في رأيي. فقد قدم طاهر نصا يساوي اسمه وسمعته ويستحق عليه الفوز، لكن كان هناك أيضا النص المبدع 'مديح الكراهية' لخالد خليفة، وهو أيضا نص يشبه الجوائز وتشبهه.
وفي الدورة الثانية كانت رواية 'عزازيل' ليوسف زيدان نصا مثيرا للجدل قبل فوزه وبعد فوزه، وهي الرواية الوحيدة في كل الدورات، التي حظيت باهتمام أوسع في البلاد العربية والغربية، والرواية الوحيدة التي ترجمت إلى لغات كثيرة، بينما باقي الروايات -سوى راوية بهاء طاهر، أو تلك التي فازت بعد عزازيل- لم تترجم إلا لعدد محدود من اللغات، وبعضها لم يترجم حتى الآن لأي لغة.
ثمة نصوص أخرى مشرقة، وصلت للقائمة القصيرة، لتنافس 'عزازيل'، لكن كان متوقعا أن تكسب رواية يوسف زيدان، بسبب الجدل الذي دار خاصة من جانب المسيحيين الذين اعتبروها نصا محرفا ومحرضا يستهزئ بعقيدتهم.
في الدورة الثالثة التي رأس لجنة تحكيمها الكويتي طالب الرفاعي وشارك فيها محكمون من بلدان أخرى، حدث ما يمكن اعتباره اهتزازا في هيبة الجائزة، حين اختلف المحكمون وحين تبادلوا الصراخ والاتهامات، ونالها السعودي عبده خال عن روايته 'ترمي بشرر' في وجود مشاركين قدموا نصوصا مذهلة، مثل المنسي قنديل بروايته 'يوم غائم في البر الغربي'.
توقع كثيرون أن تنهار تلك الجائزة وهي ما تزال رضيعة في المهد العربي، لكن ذلك لم يحدث، واستمرت في مواسمها اللاحقة، فقط بوهج أقل، وبمزيد من المهاجمين والمقاطعين لها، ثم لتأتي الدورة الرابعة وتقسم الجائزة الكبرى إلى فائزين اثنين، وهذا أيضا كان من شأنه أن يهز كثيرا من الهيبة، ولتفقد مصداقيتها لدي عدد من المهتمين بشأنها، وتتهم صراحة بأن هناك أجندات خفية، تتحكم في منحها، ولا دخل للإبداع فيها.
وقد كان الموسم الخامس أيضا مفاجئا، ليس بالموجودين في قوائمه، ولا بربيع جابر وروايته 'دروز بلغراد' ولكن بالذين لم يدخلوا أصلا إلى أي قائمة، وكانوا جديرين بالدخول، وفي ذهني روايتين لمبدعين حقيقيين، لم أكن أعتقد أن ثمة لجنة تحكيم ستتخطاهما.
أعود إلى إيجابيات الجائزة العالمية للرواية العربية -وحقا لها إيجابيات كبرى- أهم تلك الإيجابيات أنها وسعت من رقعة القراءة الضيقة في العالم العربي، وأصبحت الروايات التي تعلن في القائمة الطويلة، هدفا سريعا لقراء ينتظرون.
فسرعان ما توضع تلك الروايات على قوائم القراءة، وما تنفد نسخها الأولى من المكتبات ومعارض الكتب، وتحظى بمناقشات واسعة، كذلك بالنسبة للمبدعين، سوى الذين كانت الجائزة هدفهم، أو لا، هنا يكثر التنافس في اختراع فكرة جديدة، وفي التجلي الكتابي، وفي وضع كل بهار من شأنه أن يثير ذائقة المحكمين، ومن ثم تحدث المفاجأة التي ينتظرها صاحب النص.
وبالنسبة للكتاب الذين كانوا يكتبون في صمت سنوات طويلة، وربما لا يعرفهم إلا القليلون، فقد دخلوا إلى بوابة القراءة، بمجرد وصولهم إلى قوائم الجائزة، وبدأ القراء يبحثون عن نصوصهم القديمة.
الورشة السنوية التي تعقدها الجائزة في ما يسمى عزلة الكتابة، وترشح لها كتابا واعدين، تحت إشراف كاتبين معروفين، من أكبر إيجابيات الجائزة على الإطلاق. إنه تقليد رائع بحق أن تأتي الموهبة لتحتك بالخبرة لعدة أيام وتحت إشراف قوي، وبعدها يخرج صاحب الموهبة وقد عرف الكثير. عرف أين يضع خطواته المستقبلية وهو يسير في درب الكتابة.
أتحدث قليلا عن سلبيات الجائزة، نعم توجد سلبيات بلا شك، أهمها أن التحكيم يخضع لتذوق المحكم -كما أعتقد- وليس لمعايير علمية يقيم بموجبها النص، فتجد نصا رضي عنه آلاف القراء، لا يحظى بالتفاتة من لجان التحكيم، بينما آخر لم يعجب أحدا، تجده قد تربع في القوائم.
هناك أيضا سلبية الإنتاج الكثيف الذي ابتليت به الرواية من أجل خاطر هذه الجائزة، فتجد نصوصا لم تكن لتجرؤ أن تخرج من مخيلة كاتبها أو مسوداته فيما مضى، أصبحت الآن تترنح في سباق الجائزة.
أخيرا أتمنى حقيقة أن تستمر تلك الجائزة، برغم كل شيء، ونحن لا نصدق أننا كسبنا جائزة فقط، على من يتم اختيارهم لتحكيمها أن ينظروا إلى التجارب الجديدة المليئة بالتجريب أيضا ولا يكتفوا بالتجارب الكلاسيكية المستقرة.
______________
روائي وكاتب سوداني