جمال حسين مسلم
حين قال الملك فيصل الأول : «أقول و قلبي ملآن أسى ، أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية ، متشبعة بتقاليد و أباطيل دينية ، لا تجمع بينهم جامعة ، سمّاعون للسوء ، ميّالون للفوضى ، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت» فإنه أراد حسم الخلاف في أن الدولة في العراق ليست إفرازاً لأمة و ليست ناتجة من وعي شعب او نتيجة نضاله او صيرورة تاريخية نحو الأحسن ، و إنما هي مخلوق مستورد من الخارج ، بدعة ناتجة من تقاسم المصالح و توزيع الكعكة على المنتصرين و حسب أمزجة الغالبين . فبدل من أن يكون الشعب خالقا للدولة على صورته جاءت الدولة و الشعب يواجه مشكلة اللاشعب . الإتيان بالملك فيصل من خارج المجتمع العراقي و بالتحديد من الشام من قبل الإستعمار البريطاني لينصب ملكاً يتم من طريقه تكوين دولة متوافقة مع رغبات البريطانيين لم يكن البدعة الوحيدة للأوروبيين في منطقة الشرق الأوسط . لكنْ في ما يتعلق بالعراق فإن الوضع لم يستقر حتى الآن و لم يتحول الى حالة مستقرة مشروعة و مقبولة لدى المجتمع العراقي . فلننظر إلى ظاهرة تنصيب ملك للعراق من قبل البريطانيين من وجهة نظر فيلسوف انكليزي وو توماس هوبز حيث رأى أن عدم وجود ملك يؤدي الى الحروب و الفوضى ، و أن تخليص المجتمع من الفوضى و الاقتتال و التشتت يحتاج الى حاكم ينظم الخلافات داخل المجتمع من طريق القوة و يعيد صياغته من خلال عقد إجتماعي ملزم للجميع ، بحيث يكون الملك الراعي و القائم على الأمن و رمز الوحدة و التلاحم فيحصل الجميع على الامن في مقابل تنازلهم عن بعض من حرياتهم و يكون الملك الطرف الثالث المدافع بقوة عن القانون في مجتمع كان يحكمه قانون القوة (المجتمع الطبيعي) و هو ما يسميه التحول الى المجتمع المدني ، أي ذاك الذي يسوده القانون و يحكمه ملك ذو سلطة مطلقة و يحتكم الى عقد اجتماعي . مجيء فيصل ملكاً على عراق معروف بالفتن قديماً و حديثاً قريب من هذه الصورة مع وجود اختلافات بسيطة و لكنها مهمة للغاية و هي أن الملك بحسب نظرية هوبز يولد من رحم المجتمع نفسه كضرورة تاريخية ، يأتي بعد ان ييأس المتصارعون من حل خلافاتهم و انهاء الصراع من طريق الحروب المستمرة . أما الملك عندنا فجاء كضرورة إستعمارية و بدعم منهم . و على رغم أن الملك فيصل ابتعد سريعاً عن رغبات الغرب و بمجيء الملك غازي إنتهى أمل بريطانيا بأن يصبح العراق معسكراً و جزءاً مريحاً للإنتداب البريطاني فإن أمل فيصل بعراق موحد و ذي تطلعات عامة و إنتماء وطني يسمو فوق الإنتماءات الإثنية و المذهبية كان أحد الأهداف التي حاول تحقيقها بإستمرار من طريق سياساته المتنوعة . لكن المفارقة انه اراد تحقيق هذا الهدف (النبيل) بعقلية طائفية و بوسائل أقل ما يقال إنها غير نبيلة . فمفاهيم الوطن و الدولة و الشعب عنده لم تكن بريئة و مستقلة و مجردة بل كانت مجرد كلمات مشحونة بالطائفية . و ربما كان الإتيان بساطع الحصري (السوري و صاحب الشخصية القومية) آنذاك الى العراق و هو أحد ابرز منظري القومية العربية بلباس قشرة حداثوية و إعطاؤه صلاحية وضع منهاج التعليم و النظام التربوي في ظل أول نظام ملكي، دليلاً آخر واضحاً على إهتمام هذا الملك بتكوين الأمة العراقية و العمل على خلق الهوية العراقية لكل من يعيشون فيها . و من المعلوم ان إنقسام العراقيين مذاهب و قوميات مختلفة قبل ان يتم تجميعهم في إطار دولة لم يكن مشكلة للعراقيين أنفسهم فقط بل كان أيضاً مثار قلق و مشاكل لحكام المنطقة و على طول التاريخ . فتأسيس الدولة مثلما يعترف الملك فيصل في جزء آخر من مذكراته بني على نفس الهوية العربية السنية حيث وضعت غالبية العرب الشيعة و الكرد خارج القرار السياسي و السلطة . فهم كانوا المشكلة التي يأتي حلها بصهرهم في بوتقة الهوية الجديدة . و بهذا الصدد فعندما يعرّف فيصل الدولة العراقية يقول : «العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني و هذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة و أكثرية شيعية جاهلة تنتسب عنصرياً إلى نفس الحكومة». و وفق هذا المنطق بنيت الدولة العراقية على هذا الأساس و وُضع الشيعة و الكرد خارج العملية السياسية بحجة انهم جهلة و السنّة أفندية و متعلمون . هذه النظرة متعارضة مع الحقائق التاريخية آنذاك و قد حسم هذه المسألة كثيرون من الباحثين بالاحصاءات و الأرقام . و الأهم أن هذا الكلام سياسي و ليس مقولات فكرية فهو خطيئة و ليس خطأ ، و تعنت و ليس عدم دراية . و بالعودة الى الجملة الأساسية لفيصل في مقدمة هذا النص و هي ان مشكلة العراق أنه ليس فيه عراقي و مهمة الدولة الأولى تأسيس الهوية العراقية اي خلق العراقيين من ارض لا عراق فيه ! فإن هذه الهوية لا يشارك الكرد في بنائها و لا الشيعة فهي مرتكزة على العروبة بمفهمومها الفاشي و السنية بمفهومها المذهبي ، و تعتمد على إضعاف الإنتماء الشيعي و الكردي . هذه الهوية شبيهة بجدران دولة المدينة اليونانية من يقع خارجها برابرة لا يدخلونها إلا عبيداً و بعد الترويض . نحن تعلمنا من الفلسفة السياسية ان الشعب يظهر بمستويين و له مفهومان مختلفان ، الأول المستوى الإجتماعي ، و الثاني المستوى السياسي ، و القصد من الأول مجموع الأشخاص الذين يعيشون ضمن حدود دولة سواء كانوا نساء أو رجالاً ، أغنياء او فقراء ، على اي قومية أو مذهب كانوا ، لكن المعنى السياسي عبارة عن حق المشاركة السياسية في إطار دولة ، بمعنى أن الشعب هو صاحب الحق في السلطة و المشاركة السياسية أي المواطنة . في تاريخ الدولة العراقية الشيعة و الكرد كانوا جزءاً من الشعب بالمفهوم الاجتماعي فقط و منع عنهم حق النشاط السياسي و المشاركة الفعلية في السلطة السياسية للدولة إلا عندما ظهروا داخل هوية العرب السنة او كخدم لتلك الايديولوجية و السياسية القمعية للدولة . ثمانون عاماً من حكم الأنظمة العراقية و حتى سقوط صدام هي تاريخ لمشروع بناء الشعب العراقي من لا شيء ، هي صراع أبدي بين الدولة القوية و المتمكنة و المكونات التي لا تستسلم و لا تتخلى عن هوياتها المخالفة لفلسفة الدولة . في هذا التاريخ تغير الكثير و لكن الذي بقي من دون تغيير هو ابتعاد العراقيين أكثر بعضهم عن بعض . عملية عرقنة اولئك الذين لم يكونوا عراقيين في الأصل على الأقل حسب التعريف الرسمي زادت من ردود الفعل و فرقت أكثر مما قرّبت . أصبح الشعب بمعناه الاجتماعي أكثر حماسة للتوجه الى الهوية المحلية سواء اثنية أو مذهبية . و بعد سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ انكشف ما كان مستوراً ، السنة عادوا الى الجغرافيا و الخيال و الفضاء السياسي السني بشدة تفوق أي وقت مضى ، و كذلك الشيعة و الكرد .