جمال أبو الحسن
هذا السؤال ظل يطاردنى و يلح على ذهنى من زمن الطفولة : كيف انهارت هذه الحضارة العظيمة التى ملأت الدنيا زمناً يربو على الثلاثة آلاف عام ؟ كيف صارت أثراً بعد عين ؟ كيف درست آثارها و اندثرت لغتها و ثقافتها حتى استحالت لغزاً حير الألباب إلى أن فك طلاسمه «شامبليون» فى القرن التاسع عشر ؟ هذه أسئلة لم أجد لها إجابات شافية فى مناهج الدراسة . و الحق أنها على بساطتها مازالت تحيرنى . لست متخصصاً فى المصريات و لا حتى من هواتها المتبحرين فى أسرارها . ما أطرحه فى السطور القادمة هو ضرب من التأمل فى موضوع هو بطبيعته معقد و متشابك . غرضى ليس فك رموز الماضى و إنما إلقاء ضوء ما على الحاضر . قيام و سقوط الأمم و الممالك من السنن الكونية . أغلب الممالك التى عاصرت مصر القديمة كحضارات بين النهرين السومرية و البابلية و الآشورية لم يبق منها شىء كذلك . على أن ثمة صفة تميز الحضارة المصرية عن غيرها : الاستمرارية المذهلة فى الزمان لا يدانيها فى ذلك سوى الحضارة الصينية المستمرة منذ 3500 عام (و المقارنة مع الصين تستحق التأمل لأن حضارتها لم تندثر إلى اليوم!). المسافة بين بداية الدولة المصرية مع «مينا نارمر» 3200 ق.م , و بين نهايتها الرسمية بانتحار كليوباترا فى 30 ق.م ، تفوق مرة و نصف المسافة التى تفصلنا عن السيد المسيح ! هذا الاستمرار ارتكز قطعاً على أيديولوجية محافظة تعكس نظرة للحياة تقدس الاستقرار و تعتبره غاية تطلب لذاتها . من أين جاءت تلك النظرة المحافظة ؟ ربما من التكوين الأول للدولة . الدولة المصرية لم تولد من رحم مدن توسعت تدريجياً كما الحال فى حضارات بين النهرين مثلاً . الدولة الأولى قفزت مباشرة على خطوتين من القرى و البلدات إلى المملكة المركزية . لا وجود لحياة المدينة فى مصر القديمة بالمعنى الذى عرفته بابل أو اليونان بعد ذلك . بخلاف منف و طيبة لا وجود سوى لمراكز حضرية محدودة للغاية . مصر ليست حضارة مدن , الأغلبية الكاسحة من سكانها عاشوا عبر تاريخها الطويل فى القرى . المدن على الدوام هى منبع الأفكار الجديدة لأنها تجلب خبرات مختلفة و تجارب إنسانية متعددة , هى مراكز تلاقح و تعلم مشترك و إبداع . الريف على النقيض يكتسب الأفكار الجديدة ببطء , يهضمها فى وقت طويل , يعادى التغيير و ينزع إلى الاستقرار . لذلك نجد أن حضارة مصر تغيرت بشكل طفيف للغاية عبر ثلاثة آلاف عام . بصورة أو بأخرى عاش الناس طوال هذه الفترة بنفس الطريقة . هناك بالطبع لمحات تشير إلى تطور الفنون و الثقافة من عصر إلى عصر و لكنها لا تعكس امتداد هذا الزمن المتطاول . تكوين الدولة ارتبط أيضاً بالسلطة المطلقة للحاكم . الحكام فى أغلب الحضارات القديمة اكتسبوا «صفات إلهية» إلا أنه يندر أن تجد حضارة تحفل بمثل هذا التركيز على ارتباط الحاكم بالسماء . فى مصر كان الفرعون من البداية إلهاً منفصلاً عن البشر , وسيطاً بين السماء و الأرض . و إلى عهد الدولة الوسطى لم تكن هناك حياة أخرى أبدية سوى للفرعون دون بقية الناس . لا شك أن ظاهرة الفيضان و الحاجة إلى تنظيم الرى مركزياً أعطت الفرعون هذه الصفة «الإلهية» التى ظلت ملازمة له حتى نهاية عهد الأسرات . الفراعنة خاصة الأوائل منهم ارتبطوا فى الأذهان كذلك بالصروح العملاقة كالأهرام و غيرها . بناء الأهرام معجزة شغلت الناس عبر العصور , المغزى من وراء البناء يظل السؤال الأهم . أغلب الحضارات القديمة أقدمت على مشروعات حجرية من هذا النوع لغاية واحدة : إبراز السلطة المطلقة للحاكم . تخيل أنك تعيش فى مصر القديمة و أن قدميك ساقتاك إلى الجيزة , تصور نفسك و أنت تتطلع لهرم خوفو من أسفل و عن قرب للمرة الأولى . أى انطباع سيتركه ذلك المشهد فى نفسك سوى الرهبة الشديدة ؟ لابد أن من استطاع حشد الناس لبناء شىء مثل هذا هو بالفعل إله ، هكذا ستقول فى نفسك . سلطة الملوك الإلهية ارتكزت على هذا النوع من البناء الأسطورى . برغم ما يحيط بالأهرام من غموض إلا أن بناءها يظل معجزة إدارية/ سياسية فى المقام الأول . الثابت أن المصريين القدماء كانوا بنائين عظاماً إلا أنهم لم يخلفوا وراءهم نظريات مهمة فى الرياضيات أو الهندسة . مثلاً : هم عرفوا الزاوية القائمة بالممارسة و استخدموها و لكنهم لم يطوروا لها نظرية رياضية كنظرية فيثاغورث . الأهرام تعكس عبقرية فى التنظيم لا التنظير . الفكر النظرى عملة شحيحة للغاية فى الحضارة المصرية القديمة . هى أنتجت عدداً محدوداً من الأفكار التى صار لها تأثير ممتد (ربما أهم الأفكار فى المجال الطبى فضلاً عن اختراع البردى الذى ظل يستخدم فى الكتابة حتى العصور المسيحية). يقودنا ذلك إلى حقيقة أخرى أهم : انشغال الحضارة المصرية بالموت و بالحياة الأخرى . الدين فى مصر القديمة ليس عقيدة أو فلسفة و إنما نظام شامل يتغلغل فى نسيج الحياة . لو سئل المصرى القديم مثلاً عن دينه لاستغرب السؤال لأن الدين لم يكن جانباً من الحياة بل هو الحياة ذاتها بالنسبة له . الفن المصرى ليس سوى محاولة لاسترضاء الآلهة , العمارة عمل إيمانى , السلطة المركزية ترتكز على الكهنة , الأثر الأدبى الأهم للحضارة المصرية هو «كتاب الموتى»! نحن إذاً أمام منظومة متكاملة للحياة . منظومة خاصة للغاية ترتبط أساساً بالجغرافيا غير قابلة للاستنساخ أو التكرار (بدليل أن طرق الحياة المصرية لم تمتد خارجها إلا فيما ندر). جوهر المنظومة هو هذه الأيديولوجية الزراعية المحافظة فى السياسة و الدين و الفن و الحياة بوجه عام . حراسها هم نخبة منتقاة من الكهنة و الكتبة . هذه المنظومة ربما كانت تحمل بذور فنائها من اليوم الأول . مشكلتها الرئيسية هى نفس موطن قوتها : ثباتها المذهل بنفس مكوناتها فى الزمن و هو متغير بالضرورة . إصرارها العنيد على العيش بنفس الطريقة و ذات الإيقاع لآلاف السنين . العجز عن التكيف مع المتغيرات هو العدو الأول للدول و الحضارات .
تعليق : من افضل ما قريت عن الحضارة المصرية بعمق و باختصار انصح بقراءاته .