عمار علي حسن
وقع المسلمون المعاصرون في ثلاث مشكلات أو أوهام حيال التنوير كاصطلاح و مسار بات ضرورياً ، بما أعاق ولادته أو جعلها ولادة مبتسرة في بعض الأحيان ، ألا و هي : 1 - مزاعم أن التنوير ابن بيئة اجتماعية و سياق تاريخي مغاير ، و بالتالي هو بضاعة غيرنا و لا تلزمنا ، لأن استيرادها و استهلاكها مضر بنا ضرراً بالغاً و من ثم فإن من الضروري تجاهلها ، و الأفضل هو التشكيك فيها و دحضها . و قد روج هؤلاء كثيراً لمقولة فاسدة جعلت كثيرين يحسبون أن التنوير نقيض للإيمان . 2 - مزاعم أن خروجنا من مأزقنا ليس بالتنوير الذي يعني في مقصده التقدم إلى الأمام في التاريخ ، إنما بالعودة إلى الماضي من خلال استلهام تجربته ، و التمسك بمقولات و تصرفات من عاشوا فيه باعتبارهم «الجيل الفريد» الذي تأسس الإسلام على أكتافه , و فهم معانيه و مراميه ، و عمل على نصرته . و يزعم أصحاب هذا الموقف الملتوي الذي يسبب خسارة فادحة لنا أنهم متمسكون بالثوابت ، و أن ما هم عليه هو الصواب لأن صلاحيته مطلقة و إن تبدلت الأحوال و تغيرت الأجيال ، و هنا يتساءل الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود : هل هنالك تناقض بين قبولنا لتلك المعايير الثابتة المطلقة من جهة ، و قولنا من جهة أخرى إن الحق يتغير بتغير الموقف الذي يصادفنا ، و المشكلة التي نعالجها ؟ و في الإجابة يضرب مثلًا بسائر هدفه الكلي أن يصل إلى شاطئ البحر لكن تعترضه عقبات جزئية في الطريق و عليه أن يحلها و هو يسعى إلى هدفه ، ويقول : «هكذا الأمر بالنسبة إلى قيمنا الخالدة الثابتة من جهة ، و قيمنا النسبية المتغيرة من جهة أخرى ، الأولى هي بوصلة السير و الثانية هي المعالجات الضرورية للمشكلات الطارئة». و حتى هذه الإجابة على ما تحمله من عقلانية و تقدم لا تبدو شافية و كافية ، إذ إن المتشددين و المتطرفين توسعوا في تعيين الثوابت التي يتحدثون عنها ، و أفرطوا في إقحام أمور كثيرة زاعمين أنها تدخل في باب الاعتقاد ، و لذا فإن المفرط فيها يخرج في نظرهم من الملة . و لهذا فلا بد من أن نبذل جهداً في تحديد الثوابت تلك و ربطها في أغلبها بالمسائل العقدية الموصولة بالإيمان كما تعارف المسلمون عليه (الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر) ، أما المسائل الخاصة بالشريعة فتحتاج إلى نقاش أعمق لمعرفة الثابت منها و المتغير ، و هو أمر ضروري للخروج من المتاهة التي نلف و ندور فيها دون أن يلوح أمامنا أي مخرج حقيقي حتى الآن . 3 - مزاعم حول وجوب أن يكون المتاح لنا من تغيير إن دعت الضرورة الملحة إلى هذا في حدودٍ مقدرة بأوزان تتسم بالثبات و الرسوخ ، إذ لا يمكن القفز على الموروث و ما يحويه من معارف و قيم و اتجاهات ، و بالتالي يصبح الحيز المتاح للتغيير مشدوداً بحبال غليظة إلى «النقل» و ليس إلى «العقل» في الغالب الأعم . بالقطع يحوي «القرآن الكريم» آيات عديدة لا تجافي التنوير ، بل تطلبه ، و تفرضه ، و تلح عليه ، حين تنادي بضرورة إعمال العقل ، و التدبر في أحوال الناس و موجودات الطبيعة ، و الإيمان بأن التطور من سنن الحياة ، و إعلاء حرية التفكير و التعبير و التدبير ، و إنهاء أي واسطة بين العبد و ربه ، بما يعني تحرير الإرادة الإنسانية في العبادة و الإفادة . إن التنوير ضرورة الآن ليس لنا فقط إنما للبشرية جمعاء بما فيها الغرب الذي نتحدث باستفاضة عن تنويره ، و لذا يقول الناقد و الفيلسوف تودوروف تحت عنوان «لماذا نحن دوماً في حاجة إلى فكر الأنوار» : «تبقى مبادئ الأنوار الكبرى راهنية أكثر من أي وقت مضى . فبمقدورنا على سبيل المثال أن نعود إليها للدفاع عن نظرية التطور .. و بإمكاننا التسلح به لنشجب و ندين الحروب الحالية التي تزعم نشر الحرية و الديمقراطية ، و لنحترم تعدد الثقافات و السياسات ، و اعتبار النجاح الاقتصادي وسيلة لا غاية». إن التنوير هو المطلوب حقاً و ليس ما يثار حالياً عن «تجديد الخطاب الديني» إذ إن ذلك يشكل الحد الأدنى الذي لا أتصور أن بمُكنته أن يخرج المسلمين من المأزق الذي يعيشونه الآن ، بعد أن حول بعض المتطرفين منهم الدين من مصدر للسعادة إلى سبب للشقاء .