علي سالم
في حركة غزل اقتصادية وسياسية آسرة قالت إيران للحكومة المصرية: «هل تريدون سياحا؟.. لدي الكثير منهم.. سأرسل لكم كمية كبيرة منهم عربونا للمحبة».
وتناثرت المخاوف على أوراق الصحف وأمام الكاميرات، وتبعتها على الفور رسائل الطمأنينة من الكثيرين: «لا خوف من السياحة الشيعية، المصريون سنة وسطيون، ولا أحد يستطيع إخراجهم عن مذهبهم أو مسارهم». ولكن لا أحد فكر في طبيعة الأمر نفسه، السياحة أمر يتعلق برغبات الإنسان الفرد، هي ليست أكثر من إجازة يقضيها الإنسان في مكان خارج بلده يشعر فيه بالإثارة والمتعة ويكتسب المزيد من المعرفة. لم نسمع من قبل عن دولة ترسل سياحا إلى أي مكان كما لو كانت تحتفظ بهم في مخازنها لترسل منهم الكميات المطلوبة للحبايب. وجاءت أول طائرة بين المخاوف والتطمينات، ثم توقف كل شيء بكل ما تعنيه كلمة «توقف» من معنى. لدرجة أنه لا أحد من المحبذين أو الرافضين المحذرين علق على ما حدث. الوحيد الذي بقي محاربا في الساحة هو وزير السياحة المصري، الذي أطلق من طهران تصريحا من النوع الذي يذيب الصخور لفرط رقته وعذوبته، وذلك عندما قال إن طهران أكثر نظافة من القاهرة، وإن الإيرانيين أكثر رشاقة من المصريين بدليل أنهم لا «كروش» لهم. غير أنه لم يتنبه إلى أن هذه الأوصاف لا تساعد على تنشيط حركة السياحة الإيرانية في مصر، فمن على الأرض يرحب بزيارة عاصمة ليست في نظافة عاصمته، والتنمية الوحيدة عند أهلها هي تنمية كروشهم ؟!
ومع كل ذلك فأنا أعتقد أن شهر العسل المصري الإيراني انتهى قبل أن يبدأ لأسباب أخرى، ليس من بينها اختلاف المذاهب، ولا حتى أن المصريين في أعمق أعماقهم ليسوا على استعداد للتنكر لعروبتهم، أو المقايضة عليها بسياح، فحتى بالمنطق الانتهازي تظل حركة السياحة العربية متحققة ومتوقعة وموجودة بأكثر مما نتوقعه من إيران. أعتقد أن السبب في عدم وجود علاقة سياسية حميمية بين مصر وإيران، حتى لو أراد النظامان، هو طبيعة النظام المتطرف ذاتها. المتطرف لا يعرف الزمالة أو المشاركة، هو يعرف التبعية فقط، أن تكون تابعا لي أو أكون تابعا لك. هذا هو جوهر التفكير المتطرف وآلياته عند الفرد والنظم الثورية.
ومن البديهي أن الحكومة الإيرانية كانت تفكر في أن ثمرة مصر باتت دانية القطوف كما يقول التعبير العربي الشهير، كانت تتصور أن المصريين في أزمتهم الاقتصادية الحالية سيتعلقون بقشة السياحة الإيرانية، ومن المؤكد أن الإيرانيين في الواقع العملي اكتشفوا أن المصريين وهم يصارعون أمواج الأزمة الاقتصادية ما زالوا بعيدين عن مرحلة التعلق بالقشة، وأن لديهم حتى الآن ما يبقيهم طافين على سطح الماء. بمعنى أدق هم ليسوا على استعداد لكي يكونوا تابعين لأحد.
العلاقة المثلى للنظام المتطرف هي علاقته بسوريا وبحزب الله، وهي علاقة شاهدناها في عشرات الأفلام المصرية الأبيض والأسود: المعلم الكبير والصبيان. المعلم يدفع والصبيان ينفذون أوامره، ويحاربون معاركه، ويدفعون الثمن غاليا. ما أفدح الثمن الذي دفعه ويدفعه الشعب السوري، وما أفدح الثمن الذي يدفعه الشعب اللبناني في مغامرات حزب الله.
المعلم الكبير لا يدفع ثمن مواقفه ومغامراته، لذلك سنرى الحكومة الإيرانية تقيم مفاعلا ذريا في سوريا لكي تقوم إسرائيل بتدميره بعيدا عن الأرض الإيرانية. أما حكاية أنها تقوم منذ عدة أعوام بتخصيب اليورانيوم تمهيدا لصنع قنبلة ذرية فأنا أعترف بأنني عاجز عن تصديقها الآن. منذ عدة أعوام كان من السهل أن تعثر يوميا على تصريح لمسؤول استخباراتي يقول إن إيران ستصل إلى صنع قنبلة ذرية في ظرف عام واحد أو بعد ستة شهور، أما الآن ومنذ شهور طويلة فلا أحد تطوع بقول تصريحات من هذا النوع. وحتى تهديدات السيد نجاد لإسرائيل أو أميركا هي مشروطة دائما: «سنتولى تدمير إسرائيل وضرب مصالح الغرب إذا اعتدوا علينا».
القنبلة الذرية اختراع مخجل في تاريخ البشر، وقد استخدمت في نهاية الحرب العالمية الثانية ضد اليابان فأزالت جزيرتين بما عليهما من بشر. وبعد الحرب العالمية الثانية تفرغ ساسة العالم للوصول إلى اتفاقيات تضمن عدم استخدامها مرة أخرى. ربما ساعد على ذلك أن رجال السياسة والحرب اكتشفوا أنها لا تصلح كسلاح دفاعي، وأن استخدامها كسلاح هجومي يلحق بصاحبها نفس الدمار الذي يلحقه بأعدائه.
المتطرف - فردا أو نظاما - لا يرغب في القضاء عليك في حرب مكشوفة. هو فقط يريد أن تشعر بالخوف منه، ومما قد يفعله بك. الخصومة وحدها هي ما يربطه بك وبالعالم، هذه الخصومة هي مبرر وجوده على وجه الأرض. غير أنه في كل الأحوال حريص على عدم الدخول في حرب مكشوفة معك. من الممكن أن يقوم بمناورات بحرية وأرضية وجوية حولك تصاحبها تصريحات معادية تاركا بذلك الفرصة لك لكي تفكر في أنه على وشك الهجوم عليك، غير أنه ليس غبيا لكي يخوض حربا صريحة ضد أحد ما لم يرغم على ذلك، ولأنه يعرف جيدا أن الحروب مهما كانت قوة أسلحته فيها ليست مضمونة النتائج. الواقع أن الهدف الأساسي من كل هذه التصريحات هو إقناع الشارع الإيراني بقوة النظام وقدرته على إخافة الآخرين.
منطقتنا تعتبر كنزا بالنسبة لطلبة الدراسات العليا في علم النفس السياسي والطب النفسي أيضا. أين على الأرض اليوم تستطيع أن تجد حكاما يعادون العالم كله لأسباب لا يفهمها أحد؟ كيف يمكن فهم أن جماعة من الحكام يحرصون على كراهية كل من هم حولهم؟ الإجابة هي التطرف وما ينتجه من دمار للذات وللآخرين.
والحرية، وهي الهدف الملازم للتنمية، قضية لا وجود لها عند المتطرف، فالحرية تعني الإيمان بالمساواة بين البشر جميعا، وأنك تقف مع كل سكان الأرض على خط سباق واحد وتسعون جميعا لتحقيق الخير الأسمى، ولذلك ستجد العلاقات بين الدول الحرة تنبني على التعاون المثمر في تنمية مجتمعاتهم، وأنه يمكن دائما الوصول إلى حلول لمشاكلهم بغير عنف أو حروب. الحرية هي قدرتك على تنمية نفسك ومساعدة الآخرين، أما عندما تنشغل بشيطنة الآخرين وتحويلهم إلى شياطين من مقاسات مختلفة فهذا معناه أنك فقدت حريتك وخسرت في الوقت ذاته ثقة الآخرين بك.
*نقلاً عن "الشرق الأوسط" السعودية