محمد حبيب
تحدثنا فى المرة الماضية عن إحدى أهم القضايا الفكرية فى حياة الجماعات الإسلامية أقصد بها قضيتى «الإسلام» و «الفكر الإسلامى» و أوضحنا الفارق بينهما .. اليوم نتحدث عن قضية التكفير التى تعتبر من المسائل الخطيرة التى انزلقت إليها بعض الجماعات و كان لها آثارها المدمرة على المجتمع بعامة و الدعوة الإسلامية بخاصة فى القديم و الحديث على سواء .. و يرجع التكفير إلى مجموعة من العوامل يأتى على رأسها : قلة العلم و الفقه و سوء الفهم علاوة على التكوين النفسى و العصبى و الوجدانى لأفراد هذه الجماعات ، فضلاً عن الظروف البيئية التى نشأوا و عاشوا فيها ، و كذا المناخ العام السياسى و الاقتصادى و الاجتماعى .. و قد كان الخوارج مثالاً واضحاً على ذلك . فى كتابه «نظام الحكم فى الإسلام» يعزى الدكتور أحمد عبدالله مفتاح نشأة الفكر السياسى عند الخوارج و تطوره إلى عاملين الأول : يرجع إلى طبيعة تكوينهم الفكرى و الثانى : يرجع لأحداث العصر و وقائعه .. فطبيعة التكوين الفكرى للخوارج تحكم فيه عاملان : عامل بيئى و آخر دينى .. فأما العامل البيئى فيتمثل فى أن الغالبية العظمى منهم كانت من الأعراب كبنى تميم و بكر بن وائل حيث كانت بداوة الأعراب بما طوت من حدة و خشونة و حماس جارف و تسرع فى إبداء الرأى و التطرف فيه و التململ من الخضوع للسلطان و الحكم المركزى ، و طبيعتهم المميزة التى اكتسبوها من بيئتهم الصحراوية القاسية و الجبلية الوعرة .. و فى كتابه «نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية .. تحليل فلسفى للعقيدة» يؤكد الدكتور أحمد محمود صبحى هذا الأثر البيئى بقوله : «فالطبيعة القاسية و المناخ القارى - الذى لا يعرف الاعتدال - لا بد أن ينعكسا على نمط تفكيره - أى الإنسان و عقيدته - كما ينعكسان على حياته و شخصيته ، و من ثم كان التطرف إلى حد تكفير المخالفين و قتل النساء و الأطفال».. و أما العامل الدينى فيتمثل فى أنهم كانوا أعراباً قرأوا القرآن و حفظوه و توقفوا عند المعنى الظاهرى لآياته ، كما كانوا غير متفقهين فى السنن الثابتة عن الرسول (صلى الله عليه و سلم) .. و إلى هذا ذهب الدكتور مصطفى حلمى فى مؤلفه «نظام الخلافة فى الفكر الإسلامى» إذ يقول : «فإنكار الخوارج للتحكيم و تكفيرهم علياً (رضى الله عنه) نتيجة لهذا يرجع إلى أنهم كانوا أعراباً قرأوا القرآن حقاً و لكنهم لم يتفقهوا فى السنن الثابتة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، و لم يكن منهم أحد من الفقهاء المعروفين فى ذلك الوقت لتبصيرهم بما خفى عليهم من دقائق الفقه أمثال أصحاب ابن مسعود أو عمر و على و عائشة و أبى موسى الأشعرى و معاذ بن جبل و أبى الدرداء و سلمان و زيد و ابن عمر».. من ناحية أخرى يصف الدكتور أحمد أمين فى كتابه «فجر الإسلام» الخوارج فيقول : «كانوا على درجة من الزهد و الورع و التنسك لا يكاد يصدق بها من يقرأ أخبارهم».. هؤلاء قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنهم : «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» (صحيح مسلم) .. فى العصر الحديث لم يكن «البنا» مؤسس جماعة الإخوان تكفيرياً .. و الذى يقرأ البند الأخير من الأصول العشرين فى ركن الفهم فى «رسالة التعاليم» يتبين له ذلك بوضوح إذ يقول : «لا نكفر مسلماً أقر بالشهادتين و عمل بمقتضاهما ، و أدى الفرائض ، برأى أو معصية إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة ، أو كذب صريح القرآن ، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال ، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر» .. و قد أقر البنا بإسلام كل من قال إنه مسلم أو تسمى بأسماء المسلمين .. كما أنه خاطب الزعماء و الحكام و كل من فى مؤسسات الدولة على أنهم مسلمون .. و لم يحدث أن استعمل تلك المصطلحات من مثل : دار الحرب أو دار الإسلام ، أو الجاهلية ، أو الحاكمية ، أو ما إلى غير ذلك .. فى كتابه «الإخوان المسلمون .. محنة ١٩٦٥»، يقول المهندس محمد الصروى (أحد شباب تنظيم ٦٥) : « و قد تزامنت قضية التكفير مع اعتقالات (١٩٦٥) و مع توجهات نظام الحكم آنذاك بإشعال القضية و النفخ فى لهيبها عن طريق بعض رجال الدين و العلمانيين و الشيوعيين و ذلك لتهيئة الجو العام لإعدام سيد قطب و زملائه ، و لتبرير التعذيب البشع فى السجن الحربى .. ففى غياهب السجون كانت رحى التعذيب تدور بلا شفقة و لا رحمة و لا هوادة و تحت سياط الجلادين سقط شهداء ، محمد عواد ، محمد منيب ، إسماعيل الفيومى ، محمد عبدالله ، رفعت بكر ، زكريا المشتولى ، بدر القصبى ، و غيرهم .. و إلى جوار هؤلاء كان حمزة البسيونى يصيح بأنه يستطيع أن يسجن من يريد بل يتطاول على الذات العلية بكلمات هى الضلال بعينه .. فى هذه الأجواء نشأ فكر التكفير .. فى السجن الحربى ، و سجن أبوزعبل ، و سجن مزرعة طره .. كانت فتنة عاصفة هوجاء اجتاحت الكثيرين من الإخوان .. و قد جمع المستشار حسن الهضيبى المرشد العام كل الشبهات المثارة و رد عليها فى بحث خرج إلى النور بعد ذلك فى كتاب «دعاة لا قضاة» .. سكت الجميع إلا قليلاً .. ناقشهم طويلاً سنين عدداً دون فائدة فاضطر فى النهاية إلى إصدار قرار بفصل ٢٨ شخصاً منهم كانوا معه فى سجن مزرعة طره» .. و يوجز «الصروى» (المرجع السابق) قضية التكفير فى النقاط التالية : ١) التكفير بالمعصية و منها الصغائر و الكبائر و ترك الفرائض . ٢) التكفير .. و قضية الحاكمية . ٣) التكفير و قضية و لاية الكافرين . ٤) كفر من لا يكفر الكافر . ٥) التكفير بشروط على النطق بالشهادتين . و السؤال الذى يطرح نفسه : هل كان سيد قطب تكفيرياً حقاً ؟ تلاميذه و مريدوه من أمثال محمد بديع و محمود عزت و آخرين ينفون عنه ذلك .. و لم يكن «الصروى» يعتبر الرجل تكفيرياً إلا أنه قال : «أما كلمات سيد قطب فى الظلال فلقد كانت قاسية و عنيفة فى وصفها للحكام و المحكومين جميعاً ، و لعلها بهذا العنف هى المحور الرئيسى لأزمة التكفير .. و الله أعلم» .. ثم يقول : «لكن الذى لا شك فيه أن بعض كلماته تدع الحليم حيران»!!.. من جهته يقرر الدكتور محمد عمارة فى كتابه «شخصيات لها تاريخ» أن سيد قطب كان تكفيرياً فيقول عنه إنه : «بعد عشر سنوات من التعذيب (من أكتوبر ١٩٥٤ حتى العفو الصحى عنه فى مايو ١٩٦٤) انتقلت بفكره (نقلة نوعية) فحكم على المجتمعات الإسلامية بالكفر و الجاهلية .. بل و حكم بارتداد (الأمة) عن الإسلام منذ قرون و كتب - أى سيد قطب - يقول : (إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون) و المطلوب جعلهم (مسلمين من جديد)»! يقول الدكتور محمد عمارة : «و عن هذه المرحلة عبرت كتبه (هذا الدين) ، (المستقبل لهذا الدين) ، و (معالم فى الطريق)». و السؤال الذى يطرح نفسه : هل كان سيد قطب تكفيرياً حقاً ؟ تلاميذه و مريدوه من أمثال محمد بديع و محمود عزت و آخرين ينفون عنه ذلك .. و لم يكن «الصروى» يعتبر الرجل تكفيرياً إلا أنه قال : " أما كلمات سيد قطب فى الظلال فلقد كانت قاسية و عنيفة "