د . عبدالحميد الانصاري
هناك كتب تنير العقل وتبهج الفؤاد وتلهم النفس وعياً وحرية وشجاعة للانعتاق عن تصورات معرفية موروثة منذ التنشئة الأولى عبر ما يسميه المفكر السعودي البليهي (البرمجة التلقائية) أكدتها مناهج تعليمية وعززتها منابر ثقافية وإعلامية ودينية ، منها :
1- «في الشعر الجاهلي» لطه حسين الذي أثار منذ صدوره وإلى يومنا معارك وسجالات فكرية حامية لأنه صدم قناعات ثابتة حول الشعر الجاهلي حين قال إن كثيرا من هذا الشعر منتحل أو مصطنع ، موظفاً في ذلك نظرية الشك المنهجي لديكارت ومستنداً في شكه إلى حجتين :
( أ ) أن هذا الشعر لا يمثل الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للجاهلية كما مثلها القرآن الكريم.
(ب) أنه لا يمثل اللغة الجاهلية لأن لغة قحطان (العرب العاربة) في الجنوب غير لغة عدنان (العرب المستعربة) في الشمال ومع ذلك لا نجد فرقاً بين شعر القحطانيين والعدنانيين بل لا نجد فرقاً حتى في نطاق القبائل الواحدة رغم تباين لهجاتها ، بل إن الشعر الجاهلي كله أقرب إلى لغة القرآن ، لقد كان هذا الكتاب عاملاً قوياً في إعادة صياغة عقول أجيال وأجيال كما يقول سامح كريم في تقديمه الفذ للكتاب.
2- «الوأد عند العرب بين الوهم والحقيقة» للأديب والمفكر السعودي د.مرزوق بن تنباك ، أستاذ اللغة بكلية الآداب بجامعة الملك سعود ، يناقش الكتاب بشكل علمي منهجي ما رددته المصادر والمحفوظات العربية عن «وأد البنات» أي دفنهن أحياء ، في الجاهلية ، ليتوصل إلى أنها أقرب إلى الوضع والانتحال ، وهو في ذلك يستبطن نظرية الشك المنهجي بطريقة سلسة ومن غير تعالم معرفي ، وقد تتساءل كما تساءل كثيرون مستنكرين : كيف جاز للمؤلف أن ينازع النص الصريح «وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت» ؟! يجيبك بأنه لا نزاع في النص بل في المقصود من النص ، القرآن الكريم صريح بأن الوأد موجود ، لكن هل هو وأد البنات كما قال المفسرون أو هو وأد النفس ذكراً أو أنثى ؟ يرى المؤلف أن المقصود وأد النفس ذكراً وأنثى ، وذلك لا يخص العرب وحدهم بل يشملهم وغيرهم من الأمم التي كانت تقتل الأطفال من«علاقات غير شرعية» عبر أسلوب «الدفن» ولكن لماذا الدفن دون غيره من أساليب القتل ؟ لأنه الأنسب لستر «العار» ونسيانه ، وهو في ذلك يتوسل بمفهوم العرب للنفس عامة ذكراً أو أنثى ، كما يتكئ على مفهوم النفس في القرآن والحديث ليؤكد بأن «الموؤودة» هي النفس البشرية ، ويستشهد بما جاء في «بيعة النساء» كما في الآية «ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان» ويقرر بأنه لا يمكن حمل النهي على وأد البنات كما قال المفسرون ، لأن :
( أ ) أن المخاطب هنا المؤمنات وهن يعرفن أن الإسلام حرم قتل النفس بداهة.
(ب) توجيه الخطاب للنساء دون الرجال ، فيه دلالة بأن المرأة يمكن أن يحدث منها مثل ذلك وهو الزنى ونتيجته الحمل وقتل الولد بطريقة الدفن أو إخفاء ذلك وجعله بهتاناً يفترينه بنسب الولد لغير أبيه . ولكن ما الذي دفع المؤلف لنفي وأد البنات ومصادمة القناعات ؟! يصرح المؤلف في المقدمة بأن قضية الوأد كانت مسلمة عنده وأراد البحث عن أسبابها ولماذا اختار العرب طريقة الدفن ؟ فتجمعت عنده روايات ونصوص أثارت شكوكه في أسانيدها ومضامينها ، وقاده البحث إلى الشك في قضية الوأد نفسها ، يقول «هذا عمل بدأت البحث عن غيره فقادني إليه» لكنه لم يتسرع ومكث 7 أعوام باحثاً ممحصاً قبل أن يعلن ما توصل إليه في كتابه ، ومع ذلك فإن المؤلف وكما هو دأب العلماء في تواضعهم لا يدعي أن ما توصل إليه هو الصواب وأن غيره على خطأ ، يكفيه أنه يقدم قراءة جديدة لقضية تستحق الاجتهاد ، مؤكداً أن ما حمله على ذلك هو كشف الحقيقة والاحتساب لوجه الله تعالى لتصحيح معنى من معاني القرآن الكريم سبق فيه وهم وحوله التكرار إلى ما يشبه اليقين ، وإذ لا حجر على من يستطيع الاجتهاد ويقيم الدليل ، فإن اللجنة التي ناقشت الكتاب بعد إثارته لمئات من الردود والتعليقات الغاضبة والمؤيدة ، كانت موضوعية ومنصفة حين قررت على لسان رئيسها د.سعد بن ناصر الشثري «الدكتور ينفي وأد البنات عن العرب خاصة وبالتالي فهو لا يعارض ما ورد في النصوص ، وهو اجتهاد منه نخالفه فيه ، ومن ثم توجهت اللجنة إلى أن القضية محتملة وليست قاطعة» كما يتضح أخلاقية ابن تنباك العالية في تلمسه للمفسرين أعذاراً (المفسرون المسلمون معذورون لأن مصادر معلوماتهم قليلة ولم يجدوا بداً فيما تجود به بعض الحكايات ليكون معيناً لهم في التفسير) وهذه من سمات الباحثين الموضوعيين ، ولمعترض أن يقول : ما المقصود إذن من قوله تعالى «وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب» ؟! يجيب المؤلف بأن القرآن الكريم استخدم عبارات مجازية وبلاغية كثيرة ، وهذا ما يوضحه التعبير بالدس والإمساك بالهون ، وكلمة الهون والتراب تؤديان معنى الذلة والضعف ، ومن ذلك استعمال العرب قولهم «مرّغ وجهه بالتراب» إذ لا يفهم منه إلا المعنى المجازي للهوان وليس أن يمرغه في التراب فعلاً ، والدس في التراب يحققه ما يحدث للبنت من إخفاء وراء أسماء الرجال فنحن اليوم لازلنا ندس أسماء نسائنا بالتراب . ويذهب أبو حيان صاحب البحر المحيط إلى هذا المعنى إذ يقول : إن معنى يدسه في التراب هو شدة إخفائه لخبر المولود إذا كان أنثى . يناقش المؤلف السببين اللذين عزي الوأد إليهما عند العرب وهما «خوف العار من السبي» و«الفقر» ويرى أنهما غير متحققين في حال قريش خاصة بين القبائل ، فقريش قبيلة لا تغزو ولا تغزى في الجاهلية ، فهم أهل بيت الله الحرام واحترام القبائل لها ، أمنها من الغزو والسبي ، وأما خوف الفقر فقريش قبيلة مستقرة ومتحضرة وهم أهل تجارة وليس في بلادهم شح يصل إلى حد المجاعة التي تجعل الرجل يقتل ولده خوف إطعامه ، وقد امتن الله تعالى عليهم بقوله «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» ولكن ما أصل قضية الانتحال ؟ يرجع المؤلف أصل القضية إلى بيت الفرزدق المشهور« أنا ابن الذي أحيا الوئيد» ضمن «النقائض» بين جرير والفرزدق ، وكان قد تم جمع شعرهما وتدوينه في القرن الثاني الهجري بعد وفاتهما ، وهذا النص ، كان عمدة المفسرين في تفسير آية الوأد ، ثم صنعوا القصص حولها ، لكن لا دليل يعضده من قول في الجاهلية ولا في التاريخ الذي سبقه ولا في القصص التي سبقت الإسلام ، يناقش المؤلف هذه الحكايات ضمن فصل «الخيال الشعبي وتفسير الوأد» في إعمال لنظرية الشك المنهجي وإثارة الشكوك المنطقية في أسانيد تلك الروايات.
آخر المطاف : ليس الهدف الدفاع عن المؤلف ولا إقناع القارئ بصحة رأيه ، ولكن دفع القراء للاطلاع على هذا الكتاب الذي يفتح أمامهم آفاقاً معرفية واسعة ، تحفز العقل للتساؤل حول مسلمات موروثة ننافح عنها ، وقد يكون ما ندافع عنه هو مصدر الفشل والإخفاق والأوهام والمخاوف كما يقول المفكر اللبناني علي حرب.