عرض مشاركة واحدة
قديم 16-02-2018 , 08:01 PM   مشاركة رقم 1
إداري
 
الصورة الرمزية البرواز و الصورة
تاريخ التسجيل : Nov 2012
رقم العضوية : 2
المشاركات : 5,358
أخر زيارة : اليوم 01:50 AM
الدولة : قطر


بيانات إضافية

الجنس : ذكر

الحالة : البرواز و الصورة متواجد حالياً

Icon38 المئوية الخامسة للإصلاح الديني



السيد ولد أباه


مرت مؤخراً الذكرى المئوية الخامسة لصدور أطروحات رجل الدين الألماني «مارتن لوثر» التي أحدثت شرخاً قوياً في العالم المسيحي ، و مكنت من إحداث ما سمي بالإصلاح الديني البروتستانتي الذي غير جوهرياً التقليد التأويلي و اللاهوتي المسيحي . و قد اشتهرت أطروحة عالم الاجتماع «ماكس فيبر» التي تربط بين نشأة الرأسمالية الحديثة في مقوماتها النظرية و المعيارية (العقلنة الأداتية و تمجيد العمل و تنمية عقلية الادخار و الإنتاج) بالروح الدينية البروتستانتية ، و من ثم تقررت مسلمة تمهيد الإصلاح البروتستانتي للحداثة و التنوير في أوروبا . إن هذه المسلمة هي الخلفية التي أطرت تصور الكثير من المفكرين المسلمين المحدثين من محمد عبده و محمد إقبال إلى محمد أركون في مطالبتهم بتحقيق الإصلاح الجذري في الإسلام لتهيئة السبل للتحديث الفكري و الاجتماعي . بيد أن الكتابات العربية تخلو إجمالاً من أي مقاربة جدية لحركية الإصلاح الديني المسيحي و علاقته المزدوجة بالحداثة و التنوير ، باعتبار أن الديناميكية البروتستانية كانت في أحد وجوهها نزعة إحيائية تأصيلية تدعو للرجوع للنص المقدس و نبذ التراث الفلسفي اللاهوتي الواسع الذي ارتبط بتقليده التأويلي ، كما كانت نزعة زهدية متقشفة ناقمة على الثقافة النفعية الاستهلاكية و الفنون الجمالية لعصر النهضة ، و من هنا لا وجه لوصلها بالقيم الحداثية التنويرية ، لكنها من وجه آخر ساهمت في تقويض المنظومة السكولاستية الوسيطة في جانبها المعرفي و المؤسسي الديني مدشنة أفقاً جديدا للعالم الأوروبي . لا يتسع المقام للوقوف عند أهم المقومات الفكرية للإصلاح الديني ، و إنما سنكتفي بالإشارة إلى محاور ثلاثة مركزية في هذا الفكر كما وردت في أعمال مارتن لوثر و جان كالفين . المحور الأول يتعلق بعقيدة «الخلاص» و ما يتصل بها من منزلة البابوية المقدسة و الدور المنوط بها في منح الغفران . الخلاص بالنسبة للإصلاحيين البروتستانت حالة فردية تحكمها العلاقة المباشرة بين الله و خلقه لا يتوسطها رجل الدين ، بل هو في كامله معلق بالمشيئة الإلهية و العدل الإلهي ، و لا يمكن للمؤمن أن يستحق النجاة الأخروية بعمل أو سلوك أو اصطفاء مسبق . ما تؤكد عليه الأطروحة البروتستانية (القريبة من المنظور الأشعري الإسلامي) هو أن ما يحمل على الطمأنينة هو حب الله و رحمته و الثقة به و الاتكال عليه ، و ليس وساطة رجل الدين الذي لا يمكنه أن يتدخل في القدر الإلهي ، و لا شأن له بعالم الجزاء و العقوبة الذي هو من محض اختصاص الخالق . أما المحور الثاني فيتعلق بالتمييز اللوثري الشهير بين «لاهوت التمجيد» و«لاهوت الصليب»؛ أولهما يقوم على البحث عن معرفة الله من خلال الطبيعة و الصفات بالرجوع إلى المقولات الفلسفية (الجواهر و الطبائع) فلا يصل إلى نتيجة ، بل يظل حبيس التصورات الخيالية و النفسية التي لا تتفق مع حقيقة التعالي الإلهي و المغايرة المطلقة مع المخلوقات ، في حين أن «لاهوت الصليب» يركز على علاقة الظهور و الانكشاف و التجلي التي لا يمكن أن تنقل إلى المقولات العقلية و البراهين الصورية ، بل شرطها هو الإيمان من حيث هو هبة إلهية تدشن أفق المعنى و الفهم قبل التعقل و الاستدلال و البرهان (لا يختلف هذا الرأي كثيراً عن المذاهب الصوفية و العرفانية الإسلامية ، خصوصاً مدرسة الإشراق بجذورها الفلسفية السينوية و خلفياتها في تصوف ابن عربي). إن هذا التمييز بين المعرفة و الاعتقاد سيكون له أثر كبير في الفلسفة الغربية الحديثة ، و قد وصل ذروته لدى كانط الذي أكد في مشروعه النقدي أن التجربة الدينية لا محل لها في مجال المعرفة المحصور في الطبيعيات ، بل في العقل العملي الأخلاقي الذي يقتضي الإيمان بالمطلقات الدينية . أما المحور الثالث فيتعلق بالانتقال من النموذج التفسيري للنص الديني إلى النموذج الروحي بلغة لوثر . النموذج الأول كما كرسه التقليد التفسيري يقوم على فهم النص وفق دائرة تأويلية رباعية هي الدلالة السياقية و الدلالة المجازية و الدلالة الاعتبارية و الدلالة القصدية ، في حين يتبنى الخط الإصلاحي مفهوم التأويل الصادر عن التجربة الروحية العميقة ، أي ربط الدلالة بالموقف الوجودي و النمط المعيش الحي بدلاً من سجن النص في سياقه التاريخي الأصلي ، و بهذا يكون النص ليس كلام الله الحرفي ، بل ما أراد الله قوله من خلال الكلمة الحية المعروضة للفهم و الاستبطان . و من الجلي أن هذا التصور هو الخلفية العميقة للتأويليات المعاصرة من شلايرمخر إلى بول ريكور ، فلا خلاف أن الفلاسفة و اللاهوتيين البروتستانت هم أساتذة الهرمنوطيقا الحديثة . تلك حقيقة نادراً ما يتم الوعي بها لدى أولئك الذين يريدون بناء تأويلية إسلامية جديدة وفق هذا النموذج دون إدراك خلفياته اللاهوتية العميقة ، حتى و لو كانت أوجه التشابه مع بعض التقاليد التأويلية الإسلامية التراثية بادية للعيان .