عادل الكلباني
يبتهج المسلم حين يرى جموعَ الزائرين قد توحّدت تلبيتهم و هيئتهم و تهليلهم ، و تكبيرهم ، و استوت أفعالهم و أقوالهم ، آمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا . أتوا من كل فج عميق تلبية و استجابةً لنداءِ ربهم لأداء ما افترضه عليهم . تخامرُ القلب فرحةٌ لا توصف و رهبةٌ بين الجموع المحتشدة من كل فج ، فتَطوف على الخاطر لحظات من الذكرى الجميلة تتذكر فيها خير من أحرم و لبّى و طاف و سعى و وقف و أفاض و بات و رمى من تلك الكوكبة المهيبة من رسل الله و أنبيائه عليهم صلوات الله و سلامه. إنها لحظات لا يشعر بها على تمامها حلاوةً و خشوعًا و تقرباً إلى الله إلا من عاشها بجوّها بلحظاتها و ساعاتها و أيامها و لياليها ، و لعل اللسان تقصر به الفصاحة عن وصفها ، و ينثني القلم عن إدراك و تسطير كل مراميها ، لكن يكفينا في هذه السطور أن نقف و لو بالإشارة إلى مبحث عتيق لابد من طرحه و مناقشته لتكتمل روعة الزيارة و حلاوة النسك ، ذلك المبحث هو "اختلاف الفتوى" بين أئمة المسلمين في بعض فروع أعمال الحج حقائقها أو مسمياتها ، فكما حج خير الخلق و رسم هدياً و نسكاً لا يتغير و لا يتبدل ، فكذلك حج الصحابة و الأئمة من بعده صلى الله عليه و آله و سلم ، و الذي لاشك فيه أن هؤلاء الأئمة كلّ حج و تنسّك بما بلغه و علمه عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، و كما هو معلوم عند سلفنا و أئمتنا و علمائنا تعسّر توحد الفتوى لاختلاف الأفهام و العقول ، و لذلك ألفوا كتباً ، و عقدوا فصولاً للتعريف بالخلاف , ما يذم منه و ما لا يذم ، مفرّقين في ذلك بين خلاف التضاد و خلاف التنوع و الذي وقع مبكرًا في صدر الإسلام وقت نزول الوحي و أقره الشرع إشارة إلى التسامح فيه و ضرورة وقوعه عقلاً ، فقد يكون ذلك الإمام الذي وقع منه الخلاف لم يبلغه النص أو بلغه لكن لم يثبت عنده و إن ثبت عند غيره ، أو ثبت عنده لكن نسيه أو لم يعرف دلالة النص أو عرفها لكن لا يراها تدل على المراد أو أن النص عنده معارض بنص آخر و إن لم يبلغنا ، و نحو هذا من الأعذار التي قد لا يخلو منها إمام أو عالم ، و لا ينكر وقوعها إلا جاهل معاند ، و بما أن الناس على مراتب فمنهم من يكون مفتي نفسه لما آتاه الله من أدوات الاستنباط ، و من الناس من هو دون ذلك في الفهم فيحتاج إلى فهم من هو أفقه منه بين الفينة و الأخرى ، و من الناس من لا يسعه إلا الأخذ بفتوى غيره ، فلابد أن يكون تأثير هذا الخلاف بين الأئمة قد ظهر جليًا بين أتباعهم في أقوالهم و أفعالهم المتعلقة بعباداتهم ، و ذو الفهم السليم و العقل الراجح يفهم من هذا الخلاف سعة و سماحة و شمولية هذا الدين و صلاحه لكل حال و زمانٍ و مكان ، بينما يرى ذو النظرة الضيقة و العقل الآسن أن هذا ينافي الحق الواحد و يلوك بلسانه قول الحق : "و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" و لذلك تراه يكدح جاهداً في توحيد الآراء التي لم يؤمر شرعاً أن يسعى للمّها ، و ربما حدا به الجهل إلى تجهيل الرأي الآخر ، و ربما زاد غلواً و شططاً فبدّع و ضلل من خالف الطريقة التي يريد أن يجمع الناس حولها ، و هذا منحى مذموم في الشرع قبيح للنظر السليم ، فالأمر ليس كذلك فلم يزل الخلاف في كثير من المسائل قائماً و لا يزال المسلمون كلٌّ يأخذ من الرأي ما يراه مقرباً له إلى مولاه و خالقه ، و كم جلب إجبار الناس على مذهبٍ و رأي معين من فتن و بلاء على هذه الأمة سواء كان ذاك الرأي صوابًا أم خطأً ، فالفسحة في حرية الأخذ بالرأي و عدم هتك الحرمة بين المختلفين هي الطريقة السمحة التي بها تتآلف القلوب و تصلح أحوال الراعي و الرعية ، و الناظر في التأريخ يجد ذلك جليًا ، فقد اختلف الصحابة الكرام بحضرة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حين أمرهم أن لا يصلوا إلا في بني قريظة ، فلما أدركتهم الصلاة في الطريق منهم من صلى لحرمة الوقت و منهم من نفذ ظاهر أمر رسول الله فلم يصل إلا في بني قريظة ، فلم يعنّف عليه الصلاة و السلام أيّا من الطائفتين ، لأن كلا منهم مجتهد و كلا منهم أراد طاعة نبيه صلى الله عليه و آله و سلم و كلا منهم بذل وسعه في الاجتهاد و أخذ بما ظهر له ، و لم يكن ذلك الخلاف بينهم رضي الله عنهم موجباً لهجر و لا لقطيعة و لا لتبديع و لا لتضليل و لا لتشكيك في النوايا ، و لا للمز و غمز ، فلم يقل بعضهم لبعض أنتم خالفتم رسول الله أو تعديتم أرمه ! و هذا دليل على أن وجود النص لا يعني بحال رفع الخلاف إذ قد يوجد النص و يبقى الخلاف في فهمه و فقهه . و في زمننا هذا منهج لا يكاد يستقيم على حال ، فمن خالف بعض أهل العلم في رأي رموه بعداوة السنة أو قصد مخالفتها ، أو الجهل و التعالم و غير ذلك . و لا يخفى أن في تلك السرية التي بعثها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من هو الأعلم فيهم ، و فيهم مطاع الكلمة ، لكن لم يرد أن أحدًا منهم أجبر طائفة بالنزول على رأي الأخرى لأن الصحابة أرفع من ذلك و الجميع مجتهد ، و لذلك قال العلماء "أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب" فمحاولة جمع الناس فيما فيه سعة للخلاف سواءً فيما هو من أعمال الحج أو غيرها ينافي ما أعطاه الشارع للعقل و الفهم من المجال ، و لابد من تحجيم كل مسألة يرد فيها خلاف بحجم عقلي و توضع في إطار الإخوة و المحبة و التراحم بين المسلمين ، و قصد إصابة الحق و العمل به بعيداً عن سوء الظن و التراشق بالتهم و الرمي بالجهل و الضلال ! كما إنه من الخطأ بمكان أن نسمح للمغرضين الذين هم جند إبليس أن يتوغلوا في عميق خلافاتنا و يصنعوا منها أحبالاً للولاء و البراء , تتمسك كل طائفة بحبلها فنقع في حقبة كتلك الحقبة التي مر بها المسلمون حتى وصل بهم الحال إلى اتخاذ عدة محاريب في المسجد الواحد ، فهذه الصورة من الخلاف منبوذة عقلاً و شرعاً ، و ما من بلاء من هذا النوع إلا و وراءه التعصب المقيت للرأي ، فالذي ينبغي لكثير من العلماء و الفقهاء الذين تصدوا للفتوى النظر للرأي الآخر عند الفتوى و التنبيه على احترامه و العفو عن الأخذ به من غير تضييق على المستفتي ، و أنه لا رأي إلا رأيي و لا حق إلا عندي ، كما أن فيما طرحنا إشارة لمن ولاه الله أمور المسلمين أن لا ينحاز لرأي دون رأي ، و لا يجبر الرعية على الأخذ بفتوى دون فتوى ، إلا ما كان منها قاطعا للخلاف ، منهيا للجدال في عموم الأمر لا في خصوصه . فدين الله للجميع و الأمة الإسلامية مذاهب قد تواطأ على الاعتراف بها جميع علماء الأمة سلفاً و خلفاً ، فمن الحيف و العنت التضييق على مذهب و رأي و فسح المجال لذاك و لذاك ، الأمر الذي يوغر صدور المسلمين بعضهم على بعض و يثير بينهم التعصب الممقوت و يكون سبباً للفرقة و تقطيع أحبال الإخاء التي نسجها الإسلام بخيوط الرحمة و المحبة .
* نقلا عن "الرياض"