
فهد سليمان الشقيران
ما زلت أتذكر حماسة شيخنا أستاذ العقيدة في كلية الشريعة و هو يتناول  الردود بين الغزالي و ابن رشد ، قلبه كان مع الغزالي و لكن يبدو أن عقله لم  يستطع تجاوز ابن رشد , ما جعله يتخذ موقفاً مناوئاً للفلسفة كلها باعتبارها  حائلاً دون فهم العقيدة الحقة ، و إنما يُكتفى بعلم الكلام و الجدل المفيد  الموصل إلى الاعتقاد الصحيح . موقفه ذلك بُني على موقفٍ أصيلٍ لديه أن  الفلسفة تتضمن موقفاً جاهزاً حيال العالم ، و أن كل مَن قرأ الفلسفة خرج مِن  كتبها بنفس النتيجة . و هذا أصل لفكرة العداوة مع الفلسفة ، لا من قبل  المعلمين التقليديين ، بل مفكرين كبار مثل ابن خلدون الذي هاجم الفلسفة  بشكلٍ عنيف . الفلسفة لم تكن يوماً محتوى أو موضوعاً أو كتاباً ، إنما هي  فضاء تمارس من خلاله عملية شاقة من مواجهة أسئلة راهنة ، يثمر تعاهدها عن  كتبٍ تحمل نظريات فلسفية توصف لاحقاً بـ«الفلسفات». ثمة تقديس للفلسفة  لدى مؤيديها و مناوئيها ، حتى إن الحديث عنها أو حولها أو بها يشكل حدثاً  و حديثاً ، بينما هي مجال معرفي يمكن التمرن عليه بالجهد و الاطلاع . كثر  يتناولون الفلسفة باعتبارها المجال المهول ، إما على سبيل النقد و الهجوم،و إما الدفاع و التأييد . و لا يستدعي المجال درجات السخط أو نشوات الاغتباط ،  و ما من تعريفٍ للفلسفة متفق عليه ، و إنما مقاربات حولها ، فلكل فلسفة  تعريفها ، و كل فلسفة تنسب إلى سؤالها و عدتها المفهومية ، و دربها النظري . الفلسفة لا وظيفة لها عليك ، و إنما ما تخوضه أنت مع أسئلتك عبر مفاهيمها و متونها و نظرياتها هو ما يحدد دروبك و مصائرك و نتائج درسك . ضمن  جلبة ذلك الموقف التاريخي الرافض للفلسفة ، بقيت مؤسسات التعليم مترددةً في  تدريسها بين القبول و الرفض . أقرّت السعودية تدريس التفكير الناقد و الفلسفة  في المناهج الدراسية ، و الهدف منه تفعيل مَلَكة النقد و رفع مستوى حاسة  السؤال على الطريقة السقراطية ، كما يشرح بعض مَن ساهم في كتابة ذلك المنهج . في  الأول من يوليو (تموز) الحالي نشرت صحيفة «الاتحاد» الإماراتية خبراً  مهماً ، إذ «قررت وزارة التربية و التعليم تضمين المناهج الدراسية مادة  الفلسفة للحلقة الثالثة في المدرسة الإماراتية بدءاً من العام الدراسي  المقبل . و تركز فيها على 3 مباحث أساسية ، هي الوجود و المعرفة و القيم». هذه  خطوة تنسجم مع التطلع و النمو الذي تسعى إليه الإمارات و قطعت فيه أشواطاً  مبهرةً على شتى المستويات . لكن هل تعليم الفلسفة بالإمارات يعتبر حدثاً جديداً ، و هل قرار التدريس هذا إعلان بداية أم عملية استئناف؟! لدى  الباحثة الدكتورة ريتا فرج دراسة مفصلة و مهمة بعنوان «تدريس الفلسفة في  دول مجلس التعاون الخليجي و اليمن بين التحجيم و التحريم»، مما ذكرته : «لا  تدرس الفلسفة في المرحلة الثانوية (الثانويات الرسمية)... و قد ألغيت أواخر  التسعينات من القرن المنصرم بقرارٍ من وزارة التربية و التعليم ، و على الرغم  من إلغاء مادة (التفكير الفلسفي) و (التفكير المنطقي) بـ(القسم الأدبي) فقد  أدرجت بعض المحاور التي ترتبط بالفلسفة في الصف الثاني عشر الأدبي ، ضمن  مقرر علم النفس ، حيث يُعطى الطالب موادّ مثل مهارات التفكير الناقد ،  و مهارات التفكير الإبداعي». الحديث عن تعليم مهارات نقدية و فلسفية في  الثانويات لا يستحق كل ذلك التوجس من المعترضين . التمرين الفلسفي و النقدي  مفيد للإنسان في حياته و وجوده . قبل أيام قرأتُ كتابين ظريفين ، هما «عزاءات  الفلسفة ... كيف تساعد الفلسفة في الحياة»، و الآخر «قلق السعي إلى المكانة»،  كلاهما للأديب آلان دو بوتون ، في كتابه الأول يشرح كيف يمكن لبعض النظريات  و التجارب الفلسفية أن تساعد الإنسان على حياته ، يمر بسقراط و أبقيور  و مونتين و سينيكا و شبنهاور و نيتشه . من ملاحظاته الطريفة ، حديثه عن كيف  أسهم سينيكا في «خلق ربط دائم مع مفكرين رواقيين آخرين ، بين جوهر كلمة  (فلسفي)، و مقاربة هادئة معتدلة للكارثة . كان قد أدرك منذ البداية أن  الفلسفة منهج تعليمي يساعد البشر على تجاوز التباينات بين أمنياتهم  و الواقع»، ثم ينقل عن سينيكا قوله : «أدين بحياتي للفلسفة ، و هذا أقل  التزاماتي حيالها». (ص 98 - 99). أما في كتابه الثاني «قلق السعي إلى  المكانة»، فيدرس الصراع البشري و الحضاري نحو المكانة . الكتاب مكون من 10  فصول ، في الكتاب تناولات أدبية و فنية و لمحات فلسفية . مثل هذه الكتيبات  و التناولات توضح أن للنظريات الفلسفية إسهامات ، يمكنها أن تضيف إلى تجربة  الإنسان خبرةً مفيدة في سبيل تحديد آرائه و مواقفه . يتحدث عن التطلع ، عن  الادعاء ، عن الغطرسة ، يقول عنها : «وراء الاختيال و الغرور يكمن ذعرٌ مقيم»  (ص 25). أكرر هنا أن الفلسفة بعمومها ليست مجال تنمية ذاتية ، أو تدريب  مهني ، أو غرس مهارات ، لكن ربما ما قصده بوتون أن كثيراً من تجارب الفلاسفة  و مواقفهم و مناهجهم يمكنها تغذية مواقف الإنسان و خبراته . من قبلُ ، طرح  الفيلسوف ليوتار سؤالاً «لماذا نتفلسف؟» قاربه في كتابٍ ، و مما ذكره : «إن  الجواب على السؤال يوجد في السؤال الذي لا مفر منه (لماذا نرغب؟) و الرغبة  التي تمثل الفلسفة ليست أقل انحباساً من أي رغبةٍ كانت ، غير أنها تتضاعف  و تضع نفسها موضع سؤالٍ في حركتها ذاتها . و زد على ذلك أن الفلسفة ليست في  الواقع سوى مساءلة الأشياء». (ص 43). المقصود هنا أن تدريس الفلسفة مثله  مثل تعليم أي مادة ، بعض المفكرين يعترضون على تدريس الفلسفة ، لأن في  تعليمها عملية تحويل لها من مجالها الرحب والواسع إلى ما يشبه المحفوظات  و الملفوظات ، و هذا محل نقاشٍ طويل ، و قد اشتبك عبد الرحمن بدوي في تونس مع  آخرين ضمن ندوةٍ نظمتها «اليونيسكو» حول تعليم الفلسفة أوائل الثمانينات . تدريس  الفلسفة في التعليم العام بالإمارات عملية استئناف حيوية لما بدئ من قبل ,  إذ تمنح الفلسفات قارئها الخيال الخصب ، و القدرة على المحاججة ، و عدم التهيب  من السؤال ، و التمرن على الصياغة و القول ، و هي خطوة مهمة لمستقبل التنمية  و المعرفة في البلاد .