رضوان السيد
يشغل الأوساط العلمية العربية هذه الأيام كتاب وائل حلاّق الجديد «الشريعة»، الصادر بالإنجليزية عام 2009 و بالعربية مؤخراً . و كان كتابه الآخر «الدولة المستحيلة» (2013) قد شغلنا بنفس القدر . و قد أعلنت دار نشر جامعة كولومبيا عن كتابه الثالث «عن الاستشراق» الذي يصدر بعد أسابيع قليلة . و بالطبع لا يمكن اعتبار هذه الكلمة عن كتاب حلاّق مراجعةً له ، بل مجرد تنبيه و فتح لباب النقاش . و بخاصة أن كتب حلاق الأخيرة (و هو أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا) أثارت سخط الحداثيين و الإسلاميين معاً . بدأ حلاق منذ الثمانينيات عمله حول التفكير الفقهي في الإسلام . و بدت أعماله وقتها في صورة مقالات تنقد أُطروحتي غولدزيهر و شاخت ، السائدتين في الاستشراق لأكثر من قرنٍ . لكن هذا النقد ما تناول فقط الأُطروحات عند المستشرقين ، بل و طروحات الإصلاحيين المسلمين مثل إقفال باب الاجتهاد ، و دور الشافعي في تأسيس الأصول ، و طرائق الفقهاء في العمل ، و تكون المذاهب الفقهية . و إلى تلك المرحلة يعود عمله حول «الرد على المنطقيين» لابن تيمية و الذي ترجمه إلى الإنجليزية و كتب له دراسة تقديمية . إن تلك المقدمات النقدية ما لبثت أن تحولت بعد التسعينيات إلى أطروحة شاملة تتناول ظهور النظام التشريعي في الإسلام ، كنظام مستقل لا شأن له بالفقه الروماني و لا اليهودي و لا السرياني ، كما أنه في تعدديته و انفتاحه و تطوراته المبكرة بين أهل الحديث و الآثار و أهل الرأي ، لا يخضع للإرادات السياسية للأمويين و العباسيين و لا يخاصمها ، بل يتلاءم و يختلف في تكوناته و تطوراته بين الفقهاء و القضاة الذين تعينهم الدولة ، و تبادر السلطات بدورها إلى التبني و التنظيم ضمن فكرة تقسيم العمل و ليس التصارع و التجاذُب . فالمشروع الإسلامي مشروع عام تشارك فيه سائر الفئات و منها أهل التشريع . بيد أن التقنيات التي تعددت و انتشرت و صارت اتجاهات و مذاهب ، لا تصنعها الدولة لكنها تؤثر فيها بالطبع من خلال النظام القضائي . في السنوات العشر الأخيرة عمل حلاّق في ثلاثة مسارات : مسار كتابة التاريخ الشامل للتفكير الفقهي و مبادئه و أصوله و مؤسساته ، و مسار العمل الفقهي في القرنين التاسع عشر و العشرين . و قد ظهرت نتائج عمله في المسارين في كتاب «الشريعة» الضخم . أما المسار الثالث فيدخل في نقد الخطاب الاستعماري حول الدولة و الدين و الشريعة و الفقه و حتى الاعتقاد في الإسلام . و هو المسار الذي بدأه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» (1977). لكن ميزة وائل حلاّق كونه يعرف النظم الكلاسيكية الإسلامية في الدين و الدولة ، و قد تتبع أعمال الإصلاحيين و المجددين المسلمين حزبيين و غير حزبيين خلال أكثر من مئة عام . و وجهة نظره أن أعمال هؤلاء ما كانت ثورية أو تطرح بدائل حقيقية للتفكير الذي يعتبرونه جامداً ، و للمؤسسات التي يعتبرونها رجعية . كل محاولاتهم كانت و ما تزال محاولات «تلاؤمية» مع العمل الغربي في العالم الإسلامي في زمن الاستعمار و ما بعده . و يضرب حلاق مثلاً على هذا التماهي مع التفكير الاستعماري بفكرة تقنين الشريعة Codification ، و الشريعة هي الدين و لا يمكن تحويلها إلى قانون تنظيمي و قامع و أوحدي المقدمات و المبادئ و النتائج ، و ذلك منذ زمن مجلة الأحكام العدلية العثمانية ، و إلى الزمن الراهن و مشروعاته في تطبيق الشريعة من خلال برلمانات أو من خلال دولة «داعش». في «الدولة المستحيلة» قرأ وائل حلاق المشروع الغربي للدولة القومية الحديثة و التي صارت عماد النظام العالمي ، و استماتت الدول الوطنية في العالمين العربي و الإسلامي للتلاؤم معها ، و استمات الإسلاميون الحزبيون في تقليدها و تقليد المشروع بعناوين إسلامية سواء أكانوا واعين بذلك أو غير واعين . و في كتاب «الشريعة» يدرس نتائج ذلك على فقهاء الإصلاح و فقهاء الأسلمة المحدَثين . ما هي الدولة المستحيلة عنده ؟ إنها مشروع الدولة الإسلامية في أدبيات الإسلاميين . فهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون يريدون غربنة الإسلام أو أسلمة الغربنة ، لكي يكون ذلك أداة يستخدمونها في عمليات الصراع على السلطة في العالمين العربي و الإسلامي . و بذلك يرجون أن يحظى الأمر بشعبية لدى العامة المتذمرة من قمعيات الدولة الحديثة ، و يأملون أن يقبل الغرب منهم ذلك ، لأن آليات التلاؤم الذي يعملون عليه لا يزعج الغربيين في الحاضر ، الذين يروعهم العنف المنفلت في ديارهم و ديارنا باسم الإسلام .